تنتهج “مكتبة سماوي” ثقافة الحوار. ففي هذه المنصة، سنحاور المثقف، والناشر، والكاتب، والمترجم، والمحرر، والموزع. والقارئ أيضًا له مكان بيننا، بل هو الركن الأساس، الذي لا يمكن تجاهله في أي فعل كتابي وثقافي، فمن دونه تُصبح عملية الكتابة مبتورة وناقصة.
وتطمح «مكتبة سماوي» من وراء حواراتها المستمرة مع المؤثرين في صناعة النشر، والمثقفين، والفاعلين في الحقل الثقافي العربي، إلى أن تغدو هذه الحوارات إضافة فاعلة في صناعة الكتاب؛ كتابةً، وطباعةً، ونشرًا، وقراءةً.
وقد كان لنا شرف اللقاء بالأستاذ «محمد الفريح» في فعاليات معرض الشارقة للكتاب، فدخلنا معه في حوار شائق، تطلعنا من ورائه إلى التماس عوالم النشر الجديدة، ومستقبل تلك الصناعة عربيًا، وتأثير المتغيرات العالمية -التقنية منها خاصة- في الكتاب العربي، والمعوقات التي تقف حائلًا بين الناشرين العرب ومواكبة أحدث التقنيات في عالم النشر. فكنَّا نحاول من خلال هذا الحوار اكتشاف آفاق جديدة لسوق النشر العربي، والوصول إلى تلك المفاتيح بما يتناسب مع السوق المحلية، التي نزعم أنَّها ما زالت تحمل الكثير من عوامل النجاح، ولا ينقصها سوى السعي نحو الاحترافية مع الأخذ بضوابط الصناعة وأدواتها الحديثة.
وقبل الخوض في تفاصيل هذا الحوار، سنضعكم أمام لقطات سريعة من حياة محاورنا “محمد الفريح”.
«محمد الفريح» مدير النشر والترجمة في مؤسسة العبيكان، ومؤلف عدد من الكتب، منها: «فن إدارة المواقف» و«القوة الهادئة»، وهو أحد أهم المهتمين بتطوير صناعة النشر في الوطن العربي، إضافة إلى بصمته المتميزة في تطويع التكنولوجيا، لتكون مساعدًا للناشرين والكتَّاب والقرَّاء على حد سواء.
وكان للفريح مسار طويل ومتنوع في مؤسسات عدَّة، إذ بدأ مسيرته في مكتبة الملك فهد الوطنية خلال مرحلة تأسيسها،
– للأستاذ محمد الفريح الكثير من المؤلفات، خاصة في علم المكتبات، إضافة لكونه ناشرًا، وفاعلًا في قطاع النشر، وعضوًا في اتحاد الكتاب العرب. من هذا المُنطلق، كيف تُحب أن تُعرِّف بنفسك؟ الكاتب أم الناشر؟ أم كلاهما؟
كلاهما؛ فأنا أمارس الكتابة شغفًا وأدير مؤسسة تجارية متخصصة بالنشر بأنواعه، وهي مؤسسة العبيكان للنشر والتي تأسست عام 1995، وتستمر حتى الآن في تقديم الخدمات التعليمية والثقافية داخل المملكة العربية السعودية وخارجها.
– لكل منَّا شغفه وهواياته؛ فهل للفريح شغف خاص غير عالم الكتب والنشر؟
«نعم من المؤكد توجد اهتمامات أخرى بعيدة نسبيًّا عن عالم النشر والكتابة، لكنها مرتبطة بهما بشكل ما، مثل زيارة المتاحف المتخصصة والتعريف بها ومتابعة تطورات الذكاء الاصطناعي، والذي بات ضرورة لمواكبة التطور في كل مناحي الحياة».
– خلال السنوات الماضية، خَطَتْ المملكة العربية السعودية خطوات كبيرة نحو الاستثمار في القطاع الثقافي والمعرفي، وذلك باعتماد خطة للتوسع في العديد من الأنشطة، ومن أهمها معارض الكتب، فرأينا استحداث معرض المدينة المنورة، ومعرض المنطقة الشرقية وغيرها، ولكن يظلُّ معرض الرياض هو المعرض الرئيسي داخل المملكة؛ كيف رأيت معرض الرياض الدولي للكتاب هذا العام؟ وما هو الجديد الذي قدمه لتطوير مهارات الناشرين وصناعة النشر؟
كان معرض الرياض هذا العام متطورًا بشكل ممتاز، حيث شهد تنوعًا في دور النشر من كل الدول العربية فضلًا عن الدول الأجنبية، سواء من حيث زيادة عددها، أو وجود مبادرات متنوعة للقطاع بشكل عام؛ ساهمت في جعل هذه الدورة منه مختلفة عن الدورات السابقة، وأتمنى أن تشهد السنوات القادمة مثل هذا التطور.
لا تفوت قراءة: مؤسسة التراث غير الربحية
– كلُّ من يعرف الأستاذ محمد الفريح يعلم أنَّه شغوف بالتكنولوجيا، خاصة ما يتعلق بقطاع النشر والمكتبات، وبسؤاله عن رؤيته لمدى مواكبة دور النشر العربية لهذه التكنولوجيا، خاصة مع دخول الذكاء الاصطناعي في عمليات النشر، قال:
أرى أن عمليات التسارع كبيرة لكن مواكبة دور النشر العربية لهذا التسارع جيدة، ولكنها لا ترقى للطموح أبدًا ونحتاج استثمارات كبيرة للتحول الرقمي لنقترب من هذا التسارع ومواكبته، أو على الأقل المعرفة به.
– تُعاني صناعة النشر في العالم العربي من المشاكل، سواء أكانت مشاكل تقنية أم معرفية أم إدارية، ولعلَّ أبرز هذه المشاكل ارتباط صناعة النشر بالشغف والهواية، وعدم ارتقائها لمرحلة الاحترافية، باستثناء بعض المشاريع الحديثة، وفق رأيك، كيف يمكن أن يتحول النشر في العالم العربي إلى صناعة احترافية لا مجرد شغف وهواية؟
قطعًا لن تُصبح صناعة النشر في العالم العربي صناعة احترافية تواكب الدول الأجنبية بين يوم وليلة، ولكن يُمكن لهذا أن يحدث تدريجيًّا إذا ارتفع الوعي بتفاصيل وآليات الصناعة، ووجدت إحصائيات دقيقة لتفاصيلها مثل حجم المبيعات، والكفاءات الفاعلة في السوق، وعدد دور النشر وتخصصاتها، وعدد الإصدارات وغيرها من الإحصاءات التي تجعل من النشر صناعة يُمكن قياس تحديد عوامل النجاح والفشل فيها وقياسها بما يوازيها في دول أخرى أكثر تقدمًا.
كذلك تلعب التشريعات والقوانين دورًا مهمًّا دائمًا في تطوير أية صناعة؛ وفي صناعة النشر في الوطن العربي للأسف هذا الجانب غائب إلى حد كبير، ولا يمكن أن تتحول إلى صناعة احترافية إلا إذا طُوِّرت التشريعات والقوانين المتعلقة بها.
– يشهد قطاع النشر في المملكة العربية السعودية تطورًا وحراكًا كبيرًا خلال السنوات السابقة، ويأتي هذا انطلاقًا من رؤية قيادة المملكة ممثلة بولي العهد الأمير محمد بن سلمان وما يوليه من اهتمام للقطاع الثقافي والمعرفي، وفق رؤية 2030؛ فكيف سيؤثر هذا التطور محليًّا في الصناعة في المستقبل؟
بالطبع أي حراك وتطور في أي صناعة يؤثر عليها إيجابيًّا، وصناعة النشر مرنة ومتحولة وكثيرة التغيير وأعتقد أن مستقبل التطور فيها سيكون كبيرًا جدًا، بما تستحدثه قيادة المملكة من مناسبات وتشريعات تُساعد في ذلك وتُشجع قيادات الصناعة على القدوم إلى المملكة للاستفادة والإفادة من هذا المناخ الصحي، المُساعد في نجاح صناعة النشر وتطويرها.
– العُبيكان؛ حكاية طويلة وكبيرة، ممتدة عشرات السنين، استطاعت خلالها وضع نفسها في مقدمة دور النشر العربية، حدثنا عن العبيكان، كيف دخلت عالم النشر الرقمي أول مرة.
كانت تجربة طويلة وصعبة كانت عام 1995 ميلادية مع شركة قوقل بوك، ولكنها كانت سريعة لاستثمار قوقل فيها بشكل كبير، بعدها تطورت لتتحول لأكبر متجر للكتب على الشبكة، وتوسعت أنشطتها لتشمل التأليف والترجمة والطباعة، بالإضافة إلى العديد من الشراكات مع الهيئات الحكومية والخاصة، داخل المملكة وخارجها.
ونستطيع أن نتحدث بالأرقام لنقول إن العبيكان وصلت الآن إلى تسعمئة وألفي (2900) مطبوعة، وخمسين وخمسمئة وألفي (2550) كتاب إلكتروني، وخمسين وثلاثمئة (350) كتاب صوتي، وتترجم من ثلاث لغات إلى العربية، وتوزِّع إصداراتها في كل الدول العربية.
– هل انعكست تجربة العبيكان على بقية دور النشر السعودية؟
بداية كانت العبيكان سباقة في استخدام التكنولوجيا، حتى إننا أنتجنا الكتب الصوتية مُبكرًا جدًّا، وكذلك الكتاب الإلكتروني، ووقتها كانت السيطرة الكبرى للكتاب الورقي، ولذلك كان التأثير محدودًا لعدم قناعة كثير من دور النشر بالتحول الرقمي وقتها، أما الآن فالوضع اختلف كثيرًا، حيث تتجه معظم دور النشر إلى إنتاج الكتاب إلكترونيًّا في الوقت نفسه مع الورقي، أو ربما يسبق إنتاجُ الإلكتروني الإنتاجَ الورقي، خاصة مع ظهور أجهزة القراءة الإلكترونية وتطبيقات بيع وتوزيع الكتب الإلكترونية.
– لدينا في العالم العربي دور نشر جديدة، فالعدد دومًا بازدياد، ففي المملكة العربية السعودية وحدها حوالي اثنين وسبعين وخمسمئة (572) دار نشر، بمَ تنصح دور النشر الجديدة في ضوء ما تمر به صناعة النشر في العالم العربي؟
أنصح دور النشر دائمًا باتباع أفضل ممارسات وآليات صناعة النشر عالميًّا، سواء من حيث توفير المعلومات؛ لسهولة دراسة السوق، أو طرق النشر وآلياته والعمليات الداخلية، وكذلك التسويق، وتنمية شبكات التوزيع لتشمل الشرائح المناسبة لكل دار نشر.
– نشهد منذ سنوات تسارعًا في نمو صناعة الكتاب الإلكتروني، حتى أصبحت له سوق خاصة، هل الكتاب الورقي في طريقه إلى الأفول، أو أننا ما زلنا في عصر الورق؟
بلا شك؛ فقد أخذ الكتاب الإلكتروني حيزًا كبيرًا من صناعة النشر العالمية وبالتالي في الوطن العربي، ومن الطبيعي أن تكون له نتائج على الكتابة الورقية، سلبًا وإيجابًا، ولكن سيبقى الكتاب الورقي له مكانة لدى القراء، حتى في الأجيال الجديدة، وسيكون متزامنًا مع الكتاب الإلكتروني مثل سكتي القطار، يمضيان في الطريق نفسه بلا تقاطع.
اقرأ أيضًا: جوائز الترجمة (قريبًا)
– في نهاية الحوار، ما رؤيتك لمستقبل الكتاب الإلكتروني في العالم العربي، خاصة مع ظهور العديد من المنصات التي تُقدم خدمات بيع الكتب وتوزيعها رقميًّا؟
كما قلت الكتاب الإلكتروني نجح في أخذ حيز كبير في سوق النشر العربي، وأصبحت دور النشر الآن تهتم بإنتاجه إنتاجًا احترافيًّا، وذلك بعد أن لمست بصيص أمل في أن يُصبح منتجًا له محبوه وبالتالي له عائدات بيع، حتى لو أنها ما زالت قليلة.
ومن وجهة نظري سيكون الكتاب الإلكتروني في المستقبل القريب متطورًا وسريعًا خصوصًا مع وجود مبادرات جادة للتحول الرقمي، ووجود أنظمة تحول رقمي أصبحت معقولة جدًّا وفي متناول الجميع، تبقى قناعة صناع القرار لخوض المغامرة، وإتاحة فرص أكبر لإنتاج الكتاب إلكترونيًّا بغض النظر أو دون النظر لتأثيره على المنتج الورقي لأن سوق الكتاب الإلكتروني مختلف تمامًا عن نظيره الورقي.
قد يعجبك أيضاً
حاتم الشهري، مؤلف وناشر سعودي بارز، أسس أول وكالة أدبية المزيد
عززت جمعية الناشرين الإماراتيين نمو قطاع النشر الإماراتي ، إذ المزيد