في عالم الكتابة والنشر، يضطلع المحرر بدور العمود الفقري الذي يحمل على عاتقه مهمة صقل المحتوى وتطويره باختلاف أنواعه. ويتميز دوره بتعدد وظائفه وأهميته الكبيرة في إبراز جمال النص وتقديمه بأفضل صورة ممكنة للجمهور. وعلى الرغم من أن دور المحرر قد يظل مخفيًا خلف الكواليس، إلا أنه يلعب دورًا حيويًا في تحديد جودة ونجاح العمل النهائي، فهو الجندي المجهول في عملية الكتابة.
من المحرر؟
المحرر في الكتابة هو الشخص المسؤول عن مراجعة المحتوى وتقييمه وتطويره ليكون جاهزًا للنشر. يعمل المحرر في جميع أشكال المحتوى المكتوب كالكتب والمقالات والمجلات وغيرها، ويتضمن دوره مهام متنوعة لأنه يشتبك مع المحتوى من جوانب مختلفة. ويتحدد دور المحرر حسب طبيعة الوصف الوظيفي في المؤسسة، لكن بصفة عامة لا تخرج مهامه عن النطاقات الآتية:
1. التقييم: مراجعة المحتوى وتقييم الكتابة، بهدف تحديد مدى صلاحية المحتوى للنشر من عدمه، أو لكتابة تقرير تفصيلي عن المحتوى للكاتب، يتضمن مواطن القوة والتطوير المطلوب وأي ملاحظات.
2. التعديل: إجراء تعديلات مباشرة على المحتوى، مثل تصحيح الأخطاء اللغوية، والتأكد من سلامة أسلوب الكتابة، وتوافق المحتوى مع إرشادات العلامة التجارية، وصحة المعلومات الواردة فيه، وغيرها من التعديلات.
3. التحسين: هنا يتخطى المحرر دورَ التعديل لدور أشمل، فهو يحسِّن المحتوى ويضيف له أفكارًا جديدة، أو يعيد كتابة بعض أجزاءه بصورة مختلفة.
4. التطوير مع الكاتب: لا يعمل المحرر في هذه المهمة على المحتوى بنفسه مباشرةً، لكنه يوجِّه ملاحظات للكاتب ليعمل عليها بنفسه، ويكون دور المحرر هو تجهيز النسخة النهائية بعد انتهاء الكاتب من تنفيذ الملاحظات.
5. التخطيط والإدارة: يعمل أحيانًا المحرر في دور التخطيط للمحتوى وتحديد خطة النشر وأفكارها المختلفة، وينظِّم عملية إنشاء المحتوى والمتابعة مع الكتَّاب وتوزيع الأفكار عليهم حسب إمكاناتهم.
وفي بعض الأحيان يعمل المحرر في جميع هذه النطاقات معًا، وأحيانًا أخرى يكتفي بمجموعة منها، ويتحدد ذلك حسب المشروع الذي يعمل عليه أو احتياجات المؤسسة. لذا، المحرر النابه المحترف لا بد له من الخبرة بالعمل في كل نطاق.
المحرر والمؤلف: حتى لا تختلط المهام
ليس التحرير والتأليف مهمة واحدة، ولا يجب الخلط بينهما أو الاعتقاد بأن كونك مؤلفًا يعني أنك محررٌ في الوقت ذاته، أو العكس. يمكن بالطبع لأيٍ منهما التطور للعمل في المهمة الأخرى، لكن هذا له متطلبات يجب الاهتمام بها.
تبدأ مهمة المؤلف أولًا، فهو مسؤول عن خلق النص الأساسي، وتحويل الصفحة البيضاء الفارغة إلى صفحة مليئةٍ بالكتابة. وهنا يأتي دور المحرر الذي يعمل ضمن النطاقات الماضية التي تحدثنا عنها. يبدو الفارق بالطبع بين المهمتين واضحًا ولا خلاف عليه. لكن نقطة الخلط كما ذكرتُ في مقدمة هذه الفقرة لها علاقة بتصور أن عملك مؤلفًا يجعلك محررًا أو العكس. ومشكلة هذا الخلط أنه يجعلك تتجاوز خطوة التعلم، وتدخل مباشرةً في إطار التنفيذ، لكنك تفاجأ بصعوبة المهمة، وحتى إذا نفذتها قد لا يكون بالجودة المطلوبة.
لاستيعاب الفارق بينهما، أريد منك النظر إلى كل مهمة على أنها عقلية منفصلة، حتى مع اعتماد كليهما على المهارات ذاتها. فالمؤلف عقليته إبداعية وإنتاجية، همه الشاغل هو توليد النص، ومهارته الأساسية هي الكتابة. بينما المحرر فعقليته نقدية وتطويرية، همه الشاغل هو تحسين النص، ومهارته الأساسية هي تقييم الكتابة وتعديلها وتطويرها. والانتقال بين العقليتين ليس صعبًا، لكنه يحتاج إلى مجهود.
وعلى المستوى الشخصي، بدأتُ عملي في التأليف في عام 2016م، لكنني لم أنتقل إلى العمل في التحرير حتى عام 2020م، وبينهما عملتُ على تطوير مهاراتي في الكتابة جيدًا، وفهمت كذلك عمليةَ إنتاج المحتوى والمطلوب في كل خطوة للوصول إلى المحتوى النهائي الصالح للنشر، وفي النهاية نجحتُ في اكتساب عقلية المحرر واستيعاب مهامه، وبدأت عملي محررًا. فلا مانع من العمل في الاثنين معًا، لكن بعد تطوير المهارات اللازمة لكليهما.
ما مهام المحرر الأساسية؟
ينفِّذ المحررُ مجموعةً متنوعة من المهام في عمله، وتتحدد طبيعة هذه المهام حسب المسمى الوظيفي له. لكن بصفة عامة تتضمن مهام المحرر ما يلي:
- إعداد دليل الأسلوب الذي يمثل المرجع الأساسي المنظم لعملية الكتابة.
- تحديد خطة المحتوى والأفكار التي يمكن الكتابة عنها.
- توزيع الأفكار على الكتَّاب المناسبين لها ضمن الفريق الحالي، أو استقطاب المزيد من الكتاب للعمل.
- مراجعة الأفكار المكتوبة وترتيبها في المحتوى بالطريقة الصحيحة.
- تقييم هيكل المحتوى الحالي وتحديد مدى منطقيته في سياق الأفكار المطروحة.
- تدقيق المعلومات للتأكد من صحتها.
- توجيه الملاحظات للكتاب لتطوير المحتوى.
- التأكد من سلامة وسلاسة أسلوب الكتابة وتوافقه مع دليل الأسلوب في المؤسسة.
- إصلاح الأخطاء اللغوية في المحتوى، سواءً كانت إملائية أو نحوية.
- تحسين وتطوير الصياغات المستخدمة في الكتابة.
- ضمان أن المحتوى يقدم تجربة قراءة مناسبةٍ للقارئ.
ما أنواع المحررين؟
هناك العديد من أنواع المحررين الذين يعملون على المحتوى، وتظهر الحاجة لهم كلما تضمنت عملية إنتاج المحتوى تفاصيلَ متنوعة. إذا بحثت عن أنواع المحررين ستجد تصنيفات متعددة، لكن في هذه الفقرة سنسلِّط الضوء على أهم الأنواع، ونستعرضها بترتيب ظهورها في عملية الكتابة:
1. مدير التحرير
هو المسؤول عن عملية التحرير بالكامل من البداية للنهاية، فهو يعمل مع فرق المحتوى المختلفة داخل المؤسسة:
- الكتَّاب: يوزع عليهم الأفكار المناسبة، ويناقشهم في الرؤية التنفيذية قبل البدء.
- المحررين: ينقل لهم محتوى الكتَّاب، ويتابع معهم في أثناء عملية التحرير.
- الناشرون: يتابع معهم نشر المحتوى في المواعيد المحددة.
وبصفة عامة يضمن مدير التحرير أن مهام عملية الكتابة المختلفة تُنفَّذ بالجودة المطلوبة في إطار الميزانية المخصصة والجدول الزمني المحدد.
2. المحرر التطويري
المحرر التطويري هو المحرر الذي يتلقى النسخة الأولى من المحتوى، ويكون هدفه الأساسي تقديم ملاحظات تطويرية تساعد على تحسين النص، فمثلًا يركز في الروايات على التفاصيل الأساسية للعمل، مثل الحبكة والشخصيات والحوار، ويقدم ملاحظات مناسبة تمكِّن الكاتب من تطوير عمله.
المحرر التطويري هو محرر الصورة الكبيرة، فهو يهتم بالنقاط الجوهرية والأساسية في المحتوى، فمثلًا في هذه المرحلة لا يحتاج للتركيز على إصلاح الأخطاء الإملائية، لكنه يوجِّه ملاحظة للكاتب للاهتمام بها في حالة تكرارها بصورة كبيرة، فهو لا يشتبك مع المحتوى بنفسه، بل يركز أكثر على التعاون والتفاعل مع الكاتب.
3. محرر المحتوى
ويُطلق عليه أيضًا «محرر الخط/السطر» (Line Editor) وهي النسبة الأكبر من المحررين. يبدأ دور محرر المحتوى بعد انتهاء الكاتب من تنفيذ الملاحظات والتعديلات التي شاركها المحرر التطويري، أي يكون النص هنا جاهزًا للتنقيح والمراجعة. وأحيانًا لا يكون هناك محرر تطويري، فيعمل محرر المحتوى على تطوير النص بنفسه.
يركز محرر المحتوى على التفاصيل الدقيقة، إذ يراجع المحتوى سطرًا تلو الآخر، وهدفه هو صقل الكتابة قدر الإمكان، مثل تحسين الصياغات والعبارات المستخدمة، أو إزالة التكرار في النص، وتطوير بناء الجمل للأفضل، والتأكد من صحة المعلومات في المحتوى. لذلك يُشار لهذا النوع من التحرير باسم «التحرير الأسلوبي».
4. محرر النَسْخ
محرر النسخ (Copyeditor) هو الذي يتسلَّم النسخة النهائية للمحتوى، ودوره الأساسي هو إضافة اللمسات الفنية لتجهيز المحتوى للنشر، وأحيانًا ينفِّذ بعض المهام المشابهة لمحرر المحتوى، لكن دوره الأساسي هو التأكد من ملاءمة المحتوى لاحتياجات المؤسسة التي يكتب معها حسب دليل الأسلوب الخاص بها، لذلك تجد هذا النوع من المحررين منتشرًا في المؤسسات الإعلامية والصحافية.
ما أهم المهارات المطلوبة في مهنة المحرر؟
يحتاج المحرر إلى مجموعةٍ متنوعة من المهارات التي تساعده على أداء المطلوب منه بكفاءة. من أهم هذه المهارات:
1. اللغة القوية: الإلمامُ التام بالقواعد اللغوية والإملائية والنحوية في اللغة التي يعمل بها.
2. الكتابة: على الرغم من أن المحرر لا يكتب نصوصًا بنفسه غالبًا، لكن مهارة الكتابة تساعده في تحديد التعديلات المناسبة للمحتوى، وأحيانًا يستخدم هذه المهارة في إضافة المزيد من المحتوى للنص.
3. فهم الجمهور المستهدف: يجب على المحرر أن يمتلك فهمًا عميقًا لاهتمامات وتوقعات الجمهور، لتوجيه الملاحظات إلى الكتَّاب في هذا السياق.
4. التحليل والنقد: القدرة على تحليل النصوص بعمق، وتحديد المناطق التي تحتاج إلى تحسين، وتوجيه الملاحظات النقدية إلى الكتاب.
5. الاهتمام بالتفاصيل: التقاط الأخطاء الصغيرة والانتباه للتفاصيل الدقيقة في المحتوى.
6. التواصل الفعال: القدرة على التواصل بوضوح مع الكتاب، وشرح التعديلات بشكل مفهوم، واستيعاب شخصية كلٍ منهم.
7. المرونة والعمل تحت الضغط: القدرة على التكيف مع المواعيد النهائية والعمل مع كتَّاب متنوعين وتحرير عدد كبير من قطع المحتوى.
8. التحرير الرقمي: الكفاءة في استخدام أدوات وبرمجيات التحرير الحديثة.
التحديات الكبرى ومستقبل مهنة المحرر
تواجه مهنة المحرر مجموعةً مختلفة من التحديات، وبعض هذه التحديات يتجاوز أثره الوقت الحالي، ويمتد ليشمل مستقبل المهنة. ومن أهم هذه التحديات الكبرى:
1. التعامل بين المحرر والكاتب
قد يشعر الكتَّاب في بعض الحالات بأن المحررين يتدخلون بصورة مفرطة في عملهم، مما قد يؤدي إلى توتر العلاقة بين الطرفين، ويمكن لهذا التدخل أن يتضمن تغييرات كبيرة على أسلوب الكتابة أو حتى هيكل العمل، بما يثير قلق الكتاب حول الحفاظ على صوتهم وأسلوبهم الأصلي.
ويمكن التعامل مع هذا التحدي بالتعاون بين المحرر والكاتب، وأن يضع الاثنان في اعتبارهما أن العملية تتطلب تضافر جهودهما للوصول إلى أفضل تصورٍ للمحتوى. ويجب على المحرر الحرص على مشاركة ملاحظاته مع الكتَّاب بالتفصيل، وتوضيح الأسباب وراء الملاحظات التي يشاركها مع الكاتب، فهذا يزيد من تقبلهم لها.
2. الموازنة بين الإبداع والدقة
يواجه المحرر تحديًا صعبًا في أثناء عملية التحرير، عندما يجد نفسه مضطرًا للتخلي عن بعض الأفكار الإبداعية في المحتوى لصالح التركيز على الوضوح والتماسك في الكتابة، بما يؤدي إلى تقييد الإبداع الأصلي للكاتب؛ ولا يمكن للمحرر التضحية بأيهما على حساب الآخر.
ويمكن التغلب على هذا التحدي من خلال تجهيز دليل الأسلوب الخاص بالمحتوى ومشاركته مع الكتَّاب، وهذا يجعلهم يوظفون المحتوى في سياق المطلوب، فيظهر بلمستهم الإبداعية مع مراعاة متطلبات الأسلوب. وفي أثناء التحرير، يحاول المحرر قدر الإمكان الحفاظ على أسلوب الكاتب وطريقته ما دامت لا تخالف دليل الأسلوب، ويكتفي فقط بالتحسينات والتعديلات الضرورية للمحتوى.
3. النقد الأخلاقي لمهنة المحرر
يؤثر عمل المحرر وتحسينه للمحتوى على النتيجة النهائية، وفي بعض الأحيان يكون للمحرر وتدخلاته التأثير الأكبر على جودة العمل، ما يثير تساؤلًا حول من يجب أن ينال الثناء والتقدير في هذه الحالة؛ ناهيك عن أن تحسينات المحرر أحيانًا تمنح الكاتب تقديرًا زائدًا أو غير مستحق. مثلًا، عندما يطور المحرر صياغات النص، فمن ينال الإشادة هو الكاتب، في حين أنه لم يكتب هذه الصياغات فعلًا.
هذا التحدي مهم ومؤثر على عمل المحرر، والحل المناسب له هو أن يراعي المحرر أخلاقيات المهنة دائمًا، ولا يحاول تحسين النص دون توجيه الملاحظات للكاتب، فإذا لم يطور الكاتب من أدائه، فلا بد للمحرر من نقل الصورة الكاملة إلى الإدارة للتصرف. بهذا يتحسن مستوى الكاتب ويكون قادرًا على تطوير النصوص التي يكتبها، ويساعده المحرر على تحسن مستواه في الكتابة.
4. العمل في العالم الرقمي
يعمل المحررون غالبًا في بيئة رقمية، حيث تقدم أغلب أنواع المحتوى على الإنترنت، وينتج عن ذلك عدة مشكلات أهمها:
- توجهات الجمهور وتفضيلاته المتغيرة باستمرار.
- صعوبة الحفاظ على الدقة والموثوقية في عصر يزداد فيه تدفق المعلومات وانتشار الأخبار الزائفة.
- كثرة الأدوات التكنولوجية المتطورة.
ينتج عن كل ذلك صعوبة يواجهها المحرر، لكن يمكنه التغلب عليها بالتأقلم أولًا على الوضع، وثانيًا بمتابعة الجمهور المستهدف دائمًا ومراقبة سلوكياته، وثالثًا بتعلم أساليب البحث في العالم الرقمي وتتبع المعلومات والأخبار، وأخيرًا بتعلم كيفية توظيف هذه الأدوات لصالحه، فيتكامل دوره مع هذه الأدوات، ويصعب الاستغناء عنه.
5. التحديات الاقتصادية
تواجه الكثير من المؤسسات تحديات اقتصادية متنوعة في السنوات الحالية، ويؤدي ذلك إلى تقلص ميزانيات النشر، ويدفعها للبحث عن خيارات أقل في التكلفة، فإما يُحمَّل المحرر بمهامٍ أكثر، أو يُلجأ إلى الأدوات التكنولوجية بديلًا دائمًا، لا سيما وأن تكلفة بعضها أقل من تكلفة المحرر.
وهذا التحدي وإن كان المحرر لا يتحكم به، لكن يمكنه التغلب عليه بتطوير مستواه دائمًا، والحرص على تعلم أنواع مختلفة من التحرير، ما يجعل أدواره متنوعة وكفاءته وإنتاجيته أعلى، فلا تقدر المؤسسات على الاستغناء عنه، بل ترى دوره جوهريًا في عملية إنتاج المحتوى.
وختامًا، تظل مهنة المحرر محورية وجوهرية في عالم الكتابة والنشر، ويبقى المحرر الجندي المجهول الذي يبرز جمال وقوة الكلمات، ويضمن تقديمه بأعلى جودة ممكنة، مؤكدًا على أهمية هذه المهنة التي تعد الحارس الأمين لعالم الكتابة والإبداع.