من المفارقات التي تمور بها اللغة أنها تكشف عن أن البشر مهما أبدعوا وشردوا مع مخيلتهم في التعبير عن رغباتهم إلا أنهم يرجعون إلى أكثر الأشياء البدائية والمادية ليعبروا بها مجازيًّا عن مشاعرهم.
ففي بعض اللغات يعبر الناس عن شدة حبهم لطفل مثلًا بأن يقولوا إنهم يريدون أكله! وعلى مدار التاريخ، اشتهر تشبيه الكتب بالطعام، وساد هذا التشبيه في كل من الثقافة العربية والغربية. ومن هذا التشبيه، نشأت عدة مصطلحات وتعبيرات كثيرًا ما نتداولها دون التفكير كثيرًا في أصلها، ومن ضمنها تعبير “التهام الكتب” ومصطلح “دودة الكتب” (أي Bookworm) بالإنجليزية. كلا المصطلحين يشير إلى من يقرؤون كثيرًا فينتهون من الكتاب في مدة قصيرة وبمجرد أن يفرغوا من كتاب حتى يبدأوا في قراءة آخر. والمصطلحان يصفان الكتب بالطعام والقراءة بأنها فعل متصل بالشهية، والقارئ هنا منفتح الشهية لدرجة تجعله يلتهم الكتب كما يلتهم الدود طعامه.
رغم أن تعبيرًا مثل “التهام الكتب” قد يراه الكثيرون إيجابيًّا، لكن هذا لم يكن هو الحال على الدوام، ولم يُنظر إلى الإفراط في القراءة بوصفه فعلًا إيجابيًّا دومًا، بل مرت هذه الفكرة بتذبذبات عبر العصور. ولمعرفة السبب دعونا نلقِ نظرة على سر ارتباط فعل القراءة بفعل تناول الطعام على هذا النحو وعلى رؤية الأجيال المختلفة لقيمة القراءة.
سر تشبيه الكتب بالطعام
في كتابه مفتاح العلوم، حين ذكر السكاكي مذاهب العرب في الكرم، وصفها بأنّها تنقسم إلى قسمين: قرى أشباح متصل بطعام الأجساد، وإلى قرى أرواح متصل بالكلام، بوصفه غذاء للعقول. ويندرج الكتاب تحت هذه الكلمات.
كما تزخر اللغات الحية بعشرات الأوصاف التي تصف علاقة الإنسان بالكتاب، وكثير منها له طابع عاطفي، ومن الطبيعي أن تكون هذه التعبيرات العاطفية عن علاقة المثقفين والقراء بالكتاب هي أكثر ما يشيع في وصف هذه العلاقة، إذن لماذا شاع مثل هذا الوصف الحسي “التهام الكتب” على الرغم مما يبدو عليه من بساطة ومباشرة؟
أول ما يخطر على البال هو أن الحاسة الوحيدة التي نضمن من خلالها أن المحسوس الذي توصله إلينا قد دخل في تكويننا بالفعل هي حاسة التذوق، فقد تنسى العين ما شاهدته وينفلت منها، وقد تنسى اليد ما لمسته، وقد يتيه عن ذاكرتنا ما سمعناه لكن بمجرد دخول الطعام إلى الفم حتى يتفرق في جسدنا ويتصرف فيه كما يشاء.
ويزخر تراثنا بالعديد من الشواهد التي تؤكد ذلك، ومنها ما ذُكر في شأن هاشم الجبائي أنه كان يسامر بعض أقاربه وكان شديد البحث في علوم أبيه، فسألوه عن بعض ما كتب والده وكيف هو حاله معها، فقال: “قد دُست كتبه دوسًا، وأكلتها وشربتها درسًا، فعرفتها ظهرًا وبطنًا”.
ويقول كاتب المحتوى والصحفي ريتشارد يو إنه عند تناول الطعام، يُفكَك الطعام حتى يمتص الجسد الأجزاء المفيدة منه، ثم يتخلص من الأجزاء المضرة به. ويقول ريتشارد: “القراءة تشبه تناول الطعام، لكن العقل هو الذي يستفيد منها.” فحين نقرأ يمتص عقلنا المعلومات المفيدة والمشاعر التي تطرأ عليه، فينضج العقل بالقراءة كما ينضج الجسد بالطعام. وتضيف الباحثة إيمي جاستون أن كلمة “قراءة” باللغة الإنجليزية (read) مرتبطة بالمذاق والأحشاء، بل وكان أحد أول معانيها “معدة الحيوان.”
وكما يشتهي جسد الإنسان الطعام بالفطرة، فبالفطرة أيضًا يشتهي عقل الإنسان القراءة. ولهذا نشأ الارتباط بين الكتب والطعام منذ القدم. فتقول الباحثة لويز آدمز: “إن تشبيه الكتب بالطعام تشبيه قديم للغاية، حتى إنه ذَكر في الإنجيل. فبالفعل، أكل النبي حزقيال والنبي يوحنا المخطوطات في أوقات التجلي الإلهي، فبدا أن المخطوطات عنصر من عناصر التجلي وبدا القارئ وسيطًا للمعرفة”.
المؤلفة كاثرين مانسفيلد وجمعها بين القراءة وتناول الطعام
كتب الكثيرون مشبهين القراءة بتناول الطعام، لكن لم يجذبني أحد كما جذبتني المؤلفة كاثرين مانسفيلد بإشاراتها الدائمة إلى هذا التشابه.
كانت كاثرين مؤلفة قصص قصيرة في الزمن الذي بدأ فيه فن القصص القصيرة، بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وكثيرًا ما كانت كاثرين تحرص على أن يكون للطعام الذي تذكره في قصصها دور محوري ما أو إشارة لموضوع معين، بل وعكست قصصها علاقتها المتوترة بالطعام على مدى حياتها. لكن لم يكن هذا ما استوقفني في قصة هذه المؤلفة الموهوبة، بل استوقفني استخدامها للتشبيه بين الكتب والطعام في العديد من المواقف في حياتها اليومية.
تجمع الباحثة إيمي جاستون بعضًا من هذه المواقف في مقال لها. فتذكر مقولة كاثرين إلى زوجها في أحد خطاباتها: “كان خطابا السبت والأحد آية في الجمال، مليئيْن باللحم المقدد والطواجن. كم أحب ما تكتبه لي!” وتقول في خطاب آخر إنها “التهمت” خطابين كتبهما لها. وهنا نرى كاثرين تشبه كلمات زوجها لها بالطعام الشهي. وفي خطاب آخر تقول: “أخشى أن هذا الخطاب بارد وفقير؛ الفاكهة ليست شهية،” مشبهةً كلماتها بفاكهة سيئة المذاق. والأمثلة لا تقتصر على الخطابات فحسب؛ بل تقول إيمي إن كاثرين كانت تحمل عادةً في حقيبتها سكين فاكهة أينما ذهبت، ليس فقط لتقطيع الفاكهة، لكن أيضًا لسن الأقلام الرصاصية في حال أرادت الكتابة. وهذا يعكس مدى حفاظ كاثرين على الربط بين الطعام والكلمات في حياتها.
القصص القصيرة والوجبات السريعة، وكاثرين بينهما
كان لانتشار القصص القصيرة والوجبات السريعة دور في تعميق التشابه بين الكتب والطعام. فتقول إيمي إن كلًا من القصص القصيرة والوجبات السريعة انتشرتا في نهاية القرن التاسع عشر، نتيجةً للثورة الصناعية. فانتشرت القصص القصيرة مع التقدم التقني الذي أتاح الفرصة لطبع المجلات التي تتطلب أدبًا قصيرًا متجزئًا يلائم طبيعة المجلات. أما تصنيع الوجبات السريعة والوجبات الخفيفة فجاء تلبية للحاجة لتناول الطعام بسرعة دون تعطل. وكلا الاختراعين جاء بطريقة أو بأخرى ليساير الإيقاع السريع للحياة الذي انتشر بعد الثورة الصناعية. فتقول لورنا بياتي-فارنل إن في ذلك العصر “ظهر الاستهلاك عنصرًا رئيسيًّا في بناء الهويات الاجتماعية.”
مثلما لعب التشابه بين الكتب والطعام دورًا محوريًّا في حياة صديقتنا كاثرين الشخصية، كان سببًا في توجيه النقد لها في حياتها العملية. فكانت كاثرين تحب الوجبات السريعة والوجبات الخفيفة حبًّا يضاهي حبها للقصص القصيرة. فتقول كلير تومالين إن كاثرين وزوجها كانا يعيشان تقريبًا على الوجبات السريعة ويأكلان في المطاعم الرخيصة. وتربط إيمي هذا بشغف كاثرين نحو القصص القصيرة، فتقول: “مثل الطباخ، كانت [كاثرين] تجد نفسها مكرسة حياتها لنوع من الفن يراه العالم الأوسع فنًّا أدنى.” وهنا نجد التشابه بين الكتب والطعام يحيط بكاثرين في حياتها العملية، حتى إن النقاد استخدموه وسيلة لنقد أعمالها؛ كما كان العالم ينظر إلى الوجبات السريعة على أنها دون المستوى لم يستغرق الطباخ وقتًا لتحضيره، كان ينتقد القصص القصيرة، الفن الذي كانت كاثرين من رواده، معتبرين أنها فن غير راقٍ لم يستغرق الكاتب وقتًا للتفاني فيه.
من الجدير بالذكر أن الكثير من النقد الذي توجه لكاثرين بسبب كتابتها قصصًا قصيرة كان ظالمًا. فتقول إيمي إنه بالرغم من أن كاثرين كانت ممن يشتهون الكتب ويلتهمونها، كان لها “ذوق.” كانت كاثرين، حسب مقولة إيمي، ترى الأدب “غرضًا قابلًا للأكل، لكن على الشخص ألا يخضع لمستهلكه.” وتقول أيضًا ملخصةً رؤية كاثرين للفن: “عليه [الفن] أن يشبع شهية نهمة بحماسة غليظة وناعمة وتنوع، وألا يعرض قضمات رديئة، تغري العين وتُبلع بسهولة لكن في النهاية تفشل في إرضاء آكلها.”
لكن كاثرين لم تكن المتضررة الوحيدة من الهجمات على القصص القصيرة، ولم تكن المستهدفة الوحيدة. ففي بعض العصور كانت فكرة وجود نصوص صغيرة سهلة القراءة فكرة مستحقرة، وبالرغم من انتهاء هذا التوجه في العصور المتقدمة، لا يزال هناك من يؤمن به. لكن لفهم سبب هذا، علينا فهم نظرة العالم للاتصال بين القراءة وتناول الطعام.
لا تفوت قراءة: كيف تجعل القراءة نمط حياة روتيني؟
كيف تغيرت النظرة إلى الاتصال بين القراءة وتناول الطعام على مختلف العصور
لفهم سبب تضارب الآراء حول مصطلح “التهام الكتب” علينا أن ننظر إلى كيف قيم كل جيل القراءة وكيف كان يحكم على العصور، ونتحدث هنا عن الفترة بدءًا من القرون الأولى ووصولًا إلى عصرنا الحالي.
في القرون الأولى
تقول لويز مفسرةً القصة الإنجيلية وترابط القراءة بتناول الطعام في هذا العصر: “اتصال القراءة بتناول الطعام عكس مركزية القراءة في القوة والمسؤولية المجتمعية.” فتوحي قصة النبي حزقيال والنبي يوحنا التي تحدثنا عنها في بداية المقال، بأن القراءة كانت مقدسة في القرون الأولى، وكانت سبيلًا للوصول للإله والطريقة الأساسية للمعرفة الدينية. وتقول لويز آدمز إنه آنذاك كان أولئك من يستطيعون تفسير النصوص يحملون القوة في المجتمع، وخاصة في المجتمعات التي كانت تسود فيها الأمية؛ فتكون القراءة عملة نادرة ثمينة.
في عصر النهضة
ولد عند قراء عصر النهضة وباحثيه اقتناع بأن ليست جميع القراءات متساوية، وأظن أن هذه كانت بداية التضارب الذي نتحدث عنه. فنجد اللورد فرانسيس بايكون يقول: “خُلقت بعض الكتب ليتذوقها القارئ، وخُلقت أخرى ليبتلعها.” وهنا يستخدم التشبيه بين الكتب والطعام ليميز بين الكتب، فبعضها نستمتع به وبعضها نقرؤه على استعجال. وبالإضافة لهذا، تقول لويز إن التمييز بين القراءات كان في الأساس تمييزًا بين أنواع القراء. وبالتالي، تطور الاقتناع القديم بالأهمية الاجتماعية للقراءة ليفرض على القراء أن يكون لهم رد فعل جيد للنص الذي يقرأونه؛ فلا يبتلعونه وحسب، بل يتذوقونه ليصبح لهم قيمة أكبر في نظر الآخرين. بمعنى آخر، هنا نشأ اقتران “التهام الكتب” بالسلبية، لأن من يلتهم لا يتذوق.
في القرن السابع عشر
ترى لويز إن في هذا القرن أصبح الاتصال بين القراءة وتناول الطعام يستخدم في التمييز الثقافي، والاجتماعي، والديني بين الأشخاص. فلم تتغير النظرة إلى “التهام الكتب” في هذا القرن، بل تطورت. فتقول لويز: “أصبحت القراءة السيئة كعسر الهضم: رأى الناس أن ممارسة القراءة السطحية، أو التدريجية، أو المكثفة تؤثر على شخصية الفرد، وحواراته، وصحته.” وتستدل على ذلك بمثال من مسرحية “بوتيستر” لبين جونسون، حين تقيأ كريسبينوس، الشاعر الهاوي، تعابيره الجديدة المختلقة وقال إن قراءاته كانت سطحية وسريعة. ونستشف من هذا انتقاد المؤلف لملتهمي الكتب من خلال تجسيدهم كأشخاص تتصنع الثقافة والمعرفة.
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر
أرى أن في هذين القرنين بدأت النظرة السلبية إلى فكرة التهام الكتب تأخذ منحنى أكثر تعصبًا. فهنا بدأ التمييز بين الشهية والذوق. تعرف لويز الشهية بأنها “الاتصال بين القراءة والجسد” بينما تعرف الذوق بأنه “الاتصال بين القراءة والعقل.” وببداية الحديث عن الشهية والذوق بدأ الحديث عن التحضر والهمجية؛ فأولئك الذين ينتقون الكتب ويقرأونها بتمهل لهم ذوق وعقل يحكمون بهما، أما من يلتهمون الكتب فشهيتهم وغرائزهم هي التي تتحكم بهم. تقول لويز: “أصبحت القراءة الجيدة نشاطًا نقيًّا، سائدًا بين مجتمع المهذبين. أولئك الذين يشتهون ويبتلعون ويلتهمون الكتب كانوا، ضمنيًّا، همجيين.” وساعد في نشر هذا الانطباع التفريق الذي حث عليه المثقفون بين “التهام” الكتب و”هضمها.” فأصبح هضم الكتب فعلًا أخلاقيًّا، بينما أصبح التهام الكتب فعلًا ينم عن الجهل.
ولم يتوقف الأمر هنا، بل امتد هذا التشبيه ليصبح طرفًا في الصراع بين الجنسين وطريقة لإثبات دونية النساء. ففي هذا الزمن بدأ فن الروايات ينتشر، لكنه تعرض لهجوم كبير. كان الحصول على الروايات سهلًا وكانت منتشرة في الأسواق، ولذلك رأى الكثيرون أنها تخدم الاستهلاكية وتعمل على إشباع “شهيات ضارة”، وفقًا لأبحاث لويز. واقترنت قراءة الروايات بالنساء، بادعاء أنهن أكبر جماهير الروايات. وكانت هذه طريقة لوصم النساء بالجهل والضعف بكونهن مستهلكات.
اقرأ أيضًا: الكتاب منقذًا
في القرنين العشرين والحادي والعشرين
بدأ التمييز بين القراءات يخمد في القرن العشرين، فبدأت تظهر صور إيجابية لالتهام الكتب. وبدأ التفريق بين هضم الكتب والتهامها ينحسر. ذلك لأن الكثيرين انتقدوا التعصب ضد الاستهلاكية، ومن بينهم الكاتبة جانيس رادواي، التي اعترضت على النظرات النخبوية إلى قراء الكتب الرومانسية الشهيرة.
أما في القرن الحادي والعشرين، فظهر تخوف من نفور الأجيال الجديدة من القراءة، ولذلك زاد التحفيز على التهام الكتب، الفعل الذي نراه الآن يدل على شغف الشخص بالقراءة. وأصبحت قراءة الروايات التسويقية الشهيرة لا تقل أهمية عن قراءة الكتب العلمية، من منطلق أن أي كتاب يقرؤه الشخص يصب في ثقافته، في عصر سيطرت فيه وسائل التواصل الاجتماعية على العقول، هذه النظرة للقراءة والتي هي نتاج روح العصر الاستهلاكي الذي نعيشه، جعلت هذا التعبير “التهام الكتب” يكتسب دلالة كمية تبسيطية، وتكشف لا عن حب المعرفة والتعلق بها بل عن الرغبة في تملكها واستهلاكها.
تذكرنا هذه العلاقة السلبية بالكتاب، والتي بدأت تشيع في بعض مجتمعاتنا ووسائل التواصل الاجتماعي؛ بما نقرؤه في التحليل النفسي عن أولى مراحل النمو النفسي للطفل، وهي التي يسميها المحلل النفسي الكبير سيجموند فرويد بالمرحلة الفموية، والتي فيها يتعرف الطفل على العالم ويستكشفه من خلال فمه، فهو يضع في فمه كل ما يلقاه كي يعرفه ويستكشفه، فالفم بالنسبة إليه هو أنشط الحواس وأقربها إلى إحساسه، وهكذا الأمر في من تكون هذه طريقته في التهام الكتب، فهو يرجع إلى مرحلة طفولية بدائية تمامًا.
وإذن فموقفك من المعرفة وطريقتك في التعامل معها هي ما تعطي المعنى لهذا التعبير: “التهمتُ الكتاب”!
بالهناء والشفاء.
قد يعجبك أيضاً
يستعرض المقال تاريخ أدب الرحلات من زمن ابن بطوطة وصولًا المزيد
تعرف على كيفية حماية حقوقك كمؤلف في هذا الدليل الشامل المزيد
يناقش هذا المقال العلاقة الناشئة بين الذكاء الاصطناعي وصناعة النشر، المزيد