تمتع الكُتاب بمكانة كبيرة في العالم القديم، فكان الكاتب له من المنزلة ما يجعله مقربًا للحاكم، فمن بين مختلف المهن تجد تمثالًا للكاتب المصري القديم المحفوظ في المتحف المصري، الذي ينتمي إلى الأسرة الخامسة في عصر الدولة القديمة، في تكريمٍ لمهنة الكتابة ومدى أهميتها وما كانت تحمله من قداسة.
وظلت الكتابة والعلم مقدَّرين في الشرق القديم، على ما أكده القرآن الكريم حينما نزلت أولى آيات الذكر الحكيم «اقرأ باسم ربك الذي خلق». أما في الغرب فكانت الكتابة عند الرومان تعني توكيد النظام بكتابة القوانين والمعرفة، وكان لديهم ربة للشعر تقديرًا منهم لأهمية الإبداع، وظل الكاتب محل اهتمام وتقدير حتى تبدلت الأحوال وأصبحت الكتابة مهنة منفِّرة طاردة لذويها، ونُفِض عن الكاتب لباس القداسة.
الكتابة والفقر: صنوان لا يفترقان
انتقلت الكتابة من مرحلة الاهتمام إلى الانزواء، وأضحى القائمون عليها في حالة يُرثى لها، إذ تضج المواقع والأخبار بأنباء عن فقر مدقع وحياة صعبة يعيشها الأدباء، فلا تكاد تسمع أديبًا أو كاتبًا يتحدث عن حياته إلا ويشكو منها، وكيف أنه لم ينل ما يستحق من تقدير في عالمنا العربي، وكيف أثرت هذه المهنة على حياته وعلى أسرته. وخلال حوارات ولقاءات مع الأدباء والمفكرين العرب نادرًا بل ربما من العجائب أن تسمع أن الكتابة حققت لهم دخلًا ماديًّا يستحق العناء.
فجلهم يكتبون لأجل الكتابة ذاتها، وكأن الكتابة لعنة أصابتهم فتفرغوا لها، وجعلوها تلتهم الجزء الأكبر من وقتهم، وجل فكرهم وعطائهم، أما هي فماذا أعطت لهم؟ مكانةٌ اجتماعية بين الناس! وجاهة ثقافية! هل هذا هو أقصى ما يمكن أن تقدمه الكتابة للكاتب؟! لقد ارتضى الكُتَّاب الاكتفاء بأقل القليل من متاع الحياة ومتعها.
قصص الشعراء
تزخر كتب التراث بقصص الشعراء -وكان الشعر أسمى أنواع الكتابة عند العرب- الذين ألجأتهم الحاجة والعوز والفقر لسؤال الناس، ولم يختلف العصر الحديث كثيرًا، فكأن شعراء اليوم امتدادٌ لأسلافهم. فالشاعر الكبير أمل دنقل الذي ملأ الدنيا شعرًا وتغنى بالقومية العربية، ورفض التصالح مع إسرائيل في قصيدته الشهيرة «لا تصالح» عاش حياة طافحةً بالفقر والعوز، كان لا يجد قوت يومه، ويسير في الشوارع ربما يجد أحد أصدقائه ليتعشى معه. إذ تقول زوجته الأديبة عبلة الرويني إنها لأول مرة عرفت معنى أن ينام الإنسان بلا عشاء.
لقد كان الشعر ابتلاءً لا يرجوه أب لأبنه، إذ حينما علم والد الشاعر خليل مطران أن ابنه يكتب الشعر قال له: «ابحث لك عن حرفة تتكسب منها، فما وجدنا شاعرًا على ظهره قميص». أما أبو النجوم الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم، الذي تغنى الجميع بشعره، كان يعيش بمنزل بسيط في المقطم، ورحل عن عالمنا ولم نعرف أنه ترك إرثًا أو ثروة يُعتد بها.
من الكتَّاب من عرض مكتبته للبيع؛ تلك المكتبة التي تكون للكاتب بمنزلة الولد، فلكل كتاب فيها قصة، وفيها خلوته ومأمنه ومكمنه. فكيف يرتضي أن يعرض أحباءه للبيع ويخالف قول الشاعر:
ألا يا مستعير الكتْب دعني
فإن إعارتي للكُتْب عارُ
ومحبوبي من الدنيا كتابٌ
وهل أبصرتَ محبوبًا يعارُ؟
قصص الأدباء
أما الأدباء فليسوا بأفضل حالًا من الشعراء؛ فالكاتب محمد جبريل الحائز على جائزة الدولة التقديرية، حينما سُئل: هل الكتابة تحقق ثروة؟ فقال مازحًا «طبعًا، ألا ترى الغنى الذي أنا فيه» وأضاف «طبعًا لا.. الكتابة الأدبية لا تُطعِم خبزًا». والحقيقة أن عددًا كبيرًا من أدباء العصر الحديث يعيشون في مستوى متوسط على أحسن تقدير، والكثير منهم معوزون، منازلهم بسيطة، بل وفقيرة في أحيان أخرى.
فكيف يبدع هؤلاء؛ أحقًّا ارتبط الإبداع بالفقر؟
حينما فُصل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين من الجامعة اضطر للعمل من أجل أن يؤمِّن لأسرته قوت يومها. وربما ضرورة التكسب هذه هي ما دفعت أديب نوبل الأستاذ نجيب محفوظ أن يبحث عن الأمان والاستقرار في الوظيفة الحكومية، التي ظل فيها وتدرَّج في سلمها الوظيفي حتى خروجه على المعاش، وأكد أن الوظيفة حققت له الاستقرار المادي، إذ ضمن بها دخلًا ثابتًا. ولنجيب محفوظ قصة شهيرة عن ثنائية الأدب وقلة الأدب، إذ يُقال إن سيارته القديمة وقفت يومًا في إحدى إشارات المرور التي تصادَف أن وقف معه فيها سيارة فخمة حديثة للراقصة المشهورة «فوفو»، فنظرت إليه وقالت: «شفت يا أستاذ نجيب الأدب عمل فيك إيه؟!» فأجابها: «وشفتِ كمان قلة الأدب عملت فيكِ إيه؟!».
وارتضى بعض الأدباء التخلي عن مكتباتهم، ومنهم الأديب إبراهيم شحبي الذي عرض مكتبته الشخصية للبيع، التي جمعها على مدار خمسة وثلاثين عامًا، ارتضى التخلي عنها للبيع من أجل شراء آلة «حراثة» لمزرعته.
بينما لم يكتفِ الكاتب السعودي أحمد الدويحي بعرضه مكتبته للبيع، لكنه عرض أيضًا أن يأخذوه فوق البيعة حتى يضمن توافر مصاريف العلاج الذي بات في حاجة ماسَّة إليه، لا سيما وأن صفوف الانتظار في المستشفيات الحكومية لا تنتهي، والمستشفيات الخاصة تحتاج إلى مقدرة مالية لا يستطيع الكاتب البسيط تلبية مطالبها.
الكتابة والثروة: المعادلة الممكنة
كل ذلك هو الجانب المظلم من الرواية، الكاتب فيها مظلوم مقهور بائس إلى حد بعيد، ينفق من ماله الخاص حتى يطبع كتابه، وينفق على الدعاية والندوات، فإن لم يكن من الثراء بمكان، فالفقر النتيجة الحتمية له. غير أن هناك جانبًا آخر مشرقًا يقوده الكتاب الغربيون والأمريكيون.
خلال السنوات الأخيرة أصبحت الكتابة مهنة يمكنها أن تحقق ثراءً ودخلًا معقولًا لحياة كريمة، لا سيما مع اهتمام الدول بالثقافة واعتبارها امتدادًا لأمنها القومي، وذراعًا مهمًّا للتأثير في الشعوب، وإحدى أدوات الدبلوماسية الشعبية. وفي تقرير لموقع Celebrity Net Worth نجد خمسين مؤلفًا هم الأغنى ممن استطاعوا تكوين ثروتهم من الكتابة وحسب.
جاء على رأس القائمة مؤلفة هاري بوتر الشهيرة جوان رولينج التي رفض اثنا عشر ناشرًا نشْرَ أول أجزاء سلسلتها هاري بوتر، وحينما قبل الناشر الثالث عشر، منحها خمسمئة وألف (1500) دولار فقط، ونصحها بأن تجد عملًا آخر غير الكتابة، لأنها لن تجني منها مالًا. وأخيرًا رفض الناشر كتابة اسمها الأول على غلاف الكتاب اعتقادًا منه أن هذا سيدفع الناس للعزوف عنه. أما الآن، فجوان أول كاتبة تصل ثروتها لمليار دولار من الكتابة فقط.
جاء بعد جوان جميس باترسون وجيم ديفيس، وكلٌّ منهما لديه 800 مليون دولار، ثم دانييلا ستيل وجرانت كاردوني ومات جرونينج بـ600 مليون دولار لكلٍ منهم. وكذلك حقق باولو كويلو وروز كيندي وستيفن كينغ نصف مليار دولار، وفي المركز الخمسين والأخير أليسون دوبوا بثروة تقدَّر بمليوني دولار.
شفرة تحقيق الثروة الأدبية
الكتابة ثروة كبيرة تحفظها اتفاقيات حماية حقوق الملكية الفكرية بشتى أنواعها، وقد أصدرت البلدان العربية تشريعاتٍ لحماية الملكية الفكرية باعتبارها ثروة وطنية، وقاطرة الاقتصاد القومي للدول إذا ما أُحسن استغلالها. فالإبداع لا يمكن أن يكون بدون مقابل مادي عادل، ولكن الجهل به هو الذي يتسبب في عدم الاستفادة منه. فإن أردت الاستفادة من الكتابة وأن تحقق منها ثروة مادية فإليك بعض النصائح:
1. العمل الأدبي يولد أكثر من مرة
الكتابة نوع واحد من أنواع الإبداع، وقد تحقق عائدًا ماديًّا عادلًا لكنه ليس الأعلى دخلًا للكاتب. ولكن إن أردت أن تحقق دخلًا جيدًا فعليك بالاشتقاق من عملك، أي تحويله لأعمال درامية أو إذاعية أو غيرها مما له مردود مادي كبير، كذلك بيع حقوق الترجمة، كل ذلك يحقق قيمة اقتصادية كبيرة يمكن للكاتب الاستفادة منها.
2. أعطِ الكتابة ما تستحق من الاهتمام
يقول الكاتب الإنجليزى سومرست موم: «كسبتُ الملايين من مهنة الكتابة، ولو كانت لي أي حرفة أخرى ما كسبت واحدًا على مئة من ذلك». إن التفرغ للإبداع يوفر أقصى درجات الاستفادة من العمل المتفَرغ له.
ومن الأدباء العرب الذين آمنوا بهذا المبدأ الأستاذ عباس العقاد الذي تفرغ للكتابة واشتهر عنه قوله «الموظفون عبيدٌ في الأرض». هذا التفرغ هو الذي أتاح له أن يطالب بأجر 1000 جنيه عن كتابيه «التفكير فريضة إسلامية»، و«حقائق الإسلام وأباطيل خصومه». هذا الأجر الكبير جدًّا في عهده ما كان له أن يتحقق لولا التفرغ الذي التزم به العقاد.
3. غرد وحدك
كل متفرد في فنه، متفردٌ في أجره، متفرد في صداه. وكل مقلد يسير خلف القطيع، لن يجني أكثر مما يجنيه القطيع. إن أردت أن تكون الكتابة مصدر دخل وثروة ما عليك إلا أن تُبدع فيما تكتب، فما اشتهر آرثر كونان دويل إلا لأنه أبدع شخصية شارلوك هولمز، فجنى من المال والشهرة ما لم ينَله كاتب آخر. وكذلك فعلت جوان رولينج.
وفي مصر حقق محمود سالم شهرة كبيرة بسلسلتيه الشهيرتين: المغامرون الخمسة، والشياطين الــــ13، إذ تخصص في الكتابة لفئة عمرية محددة، مما كفل له أن تُطبع كتبه وتنشر وتوزع في كل أنحاء الوطن العربي، وكانت شهرته تفوق الخيال، حتى إنه كان يُدعَى لقصور الملوك والأمراء من أجل أن يروا هذا العبقري صاحب «المغامرون الخمسة». وبلغت مكاسبه من الطباعة الحد الذي جعل أنيس منصور يستدعيه يومًا إلى مكتبه في دار المعارف ويخبره بأنه يكسب مثل مجموع الكُتَّاب في الدار.
والأمر نفسه تحقق مع الدكتور أحمد خالد توفيق ونبيل فاروق، حيث كانت المؤسسة العربية الحديثة وما زالت تستفيد من أعمالهما وتطور وسائل نشرها بين مسموعة ومقروءة ومشاهدة من خلال السينما. فهل كان يمكن لأيٍّ منهم أن يحقق تلك العوائد المادية الكبيرة لولا التخصص؟
بكل الأحوال القرار لك، إما أن تكون كاتبًا فقط، تكتفي بالتمثيل الشرفي بنشر كتابك وتوزيع نسخ منه على أصدقائك وأفراد عائلتك، أو أن تكون كاتبًا مجتهدًا تعرف حقوقك وتستغلها وتحقق الثروة التي ترنو لها.
قد يعجبك أيضاً
المحرر هو الجندي المجهول في الكتابة، يصقل النص ويضمن جودته المزيد