لقد حفظت البشرية نتاجها المعرفي والأدبي لمدةٍ طويلة حفظًا فيزيائيًا ماديًا من خلال تدوينه على الألواح الطينية أو العسيب أو الأديم أو الكرانيف أو البردى أو الرق أو الورق، وكانت هذه الأدوات المُدوَّن عليها نابعة من خصوصية العصور القديمة ومنسجمة مع روحها. وبعد أن مرَّت البشرية بتحولات محورية ونقلات نوعية، ابتكرت أداة جديدة لحفظ نتاجها المعرفي، ألا وهي الرقمنة. فالرقمنة أداة من أدوات حفظ المعرفة في المرحلة التاريخية الراهنة.
ومع البروز المتأخر لهذه الأداة الجديدة لحفظ المعرفة، كان الإنسان قد امتلك تراثًا معرفيًا هائلًا محفوظًا وفق الآلية الكلاسيكية، فغدونا أمام مرحلة ذات طبيعة تراكمية وتراكبية، فهي ممتلكة جلَّ النتاج الإنساني المعرفي من جهة، وتحضر فيها الآليتان الكلاسيكية والحداثية لحفظ المعرفة من جهة ثانية. ولعلّ التحدي الأكبر الذي واجه الإنسان المعاصر هو: كيفية حفظ هذا التراث الإنساني المخطوط -الذي يُعدُّ بمنزلة وثائق تاريخية وأثرية- حفظًا لا يحجبه عن تفاعل المتلقي معه، فكنَّا أمام علم جديد يستفيد من تقنيات العصر، ألا وهو رقمنة المخطوطات.
وفي مقالنا هذا -الذي يُعدُّ استكمالًا لمقالات أخرى، توقفنا فيها عند مفهوم المخطوطات ومناهج تحقيقها وإخراجها- سنوضح مفهوم رقمنة المخطوطات، ومنهجه، وصعوباته، في محاولة لرسم صورة متكاملة عنه في ذهن القارئ.
مفهوم رقمنة المخطوطات
تُعرَّف الرقمنة على أنَّها: عملية أخذ عنصر مادي مثل: الكتاب، أو المخطوط، أو الصورة، وعمل نسخة رقمية له. بمعنى آخر، هي عملية تحويل المحتوى الفكري المتاح على وسيط فيزيائي تقليدي إلى شكل رقمي.
وبالتالي، فإنّ رقمنة المخطوطات: هي عملية منهجية تُعنى بنقل النص المخطوط من صيغته الأولية الموضوعة من الناسخ إلى صيغة حداثية رقمية.
دوافع رقمنة المخطوطات
هنالك دوافع عدّة، أدت إلى الاتجاه نحو حفظ التراث المخطوط بآلية رقمية، وفيما يلي سنلقي الضوء على أبرز هذه الدوافع.
حماية المخطوط
لا يعدُّ المخطوط حاملًا معرفيًا ومجالًا للدراسات المعاصرة فحسب، بل هو أيضًا عنصر أثري، لا يمكن تعويضه في حال فقدانه. لذا، وجب الحفاظ عليه وحمايته من جهة، ووضعه أمام الباحثين الراغبين بالاشتغال عليه من جهة ثانية. ولحلّ هذه المعضلة، المتمحورة حول إتاحة المخطوط والحفاظ عليه، كان من الضرورة الاتجاه نحو عملية رقمنة المخطوطات، فبتوافر النسخ الرقمية يقلُّ الطلب على النسخ الأصلية للمخطوط، الأمر الذي يجنبها التمزيق أو التلف بسبب تكرار تداولها.
تداول المخطوط
إنّ المخطوط عنصر محجوب عن التداول، وذلك يعود إلى قيمته التي لا تُعوض. لذا، فإنّ رقمنته وإتاحته للعموم، ينقله من طور الوجود بالقوة إلى طور الوجود بالفعل؛ إذ يغدو في محط تناول عدد كبير من المتلقين، الذين يتفاعلون معه معرفيًا وجماليًا.
الحفاظ على المعرفة الإنسانية
إنَّ الأخطار التي تحيط بالبشرية كثيرة، وتأتي أحيانًا بصورة غير متوقعة. وهذه الأخطار لا تقضي على الإنسان فحسب، بل قد تقضي أيضًا على التراث الحضاري، بما فيه المخطوطات. لذا، فإنَّ رقمنة المخطوطات، ونشر هذه الصيغ الرقمية في أماكن مختلفة ومتعددة، قد يحمي تراثنا المخطوط، إذا ما حلت كارثة في المكان المحفوظ فيه.
فالمخطوط كائن روحي برزخي، تتجاذبه إمكانية الزوال والفناء من جهة، وإمكانية الخلود والبقاء من جهة أخرى إذا نحن اجتهدنا في سبيل نقله من كينونته الخطية الورقية إلى حالات تتماشى وما وفرته التكنولوجيا الحديثة من تصوير ورقمنة ووسائط إعلامية متعددة.
منهجية رقمنة المخطوطات
قبل الإقدام على رقمنة المخطوطات، لا بدّ من وعي المنهجية المثلى للرقمنة، وهي كالتالي:
1. وضع خطة للرقمنة
لا يمكن البدء بعملية رقمنة المخطوطات من دون امتلاك خطة واضحة، فالرقمنة ليست عملية عشوائية، بل هي عملية تخطيطية، وهذه الخطة لا بد من أن تركز على الآتي:
– حدود الرقمنة
المخطوطات المنتشرة في العالم كثيرة. لذا، قبل البدء بعملية الرقمنة، لا بدّ من اختيار المخطوطات التي ستُرقمن، ويجب التركيز في عملية الاختيار على عنصرين: قيمة المخطوط وندرته.
– اختيار مكان مناسب
تُعدُّ المخطوطات عناصر أثرية. لذا، قبل البدء بعملية الرقمنة، لا بد من اختيار مكان آمن ومناسب وبعيد عن عوامل الطبيعة القاسية، تُوضع فيه المخطوطات قيد الرقمنة، وذلك للحفاظ عليها، فلا تتعرض للتلف في أثناء عملية الرقمنة.
– اختيار فريق احترافي
لا بد من اختيار فريق احترافي للقيام بعملية رقمنة المخطوطات، وأبرز الاختصاصات القادرة على الاشتغال في عملية الرقمنة: علماء الآثار، والمختصون في الترميم، والمختصون في التعامل مع أجهزة الرقمنة.
– توفير الأجهزة المساعدة في الرقمنة
لا بد من التأكد من توفر العناصر المساعدة في الرقمنة، وهي: جهاز الماسح الضوئي، والكاميرات الرقمية، وأجهزة الكومبيوتر ولواحقه، وبرامج التقاط الصور، وبرامج تحرير الصور.
– الميزانية
قبل البدء بالرقمنة، لا بدّ من تحديد ميزانية كافية، تنسجم مع عدد المخطوطات التي ستُرقمن ضمن الخطة.
– الخطة الزمنية
يجب وضع جدول زمني للانتهاء من عملية الرقمنة، فلا يمكن الاستهتار بعامل الزمن، ولا سيما في أثناء التعامل مع عناصر تراثية أثرية كالمخطوطات.
2. مرحلة صيانة المخطوط
قد لا تكون المخطوطات المُختارة للرقمنة في حالة نموذجية مثالية، فمن الممكن أن تكون تالفة أو ممزقة. لذا، من الضروري صيانة هذه المخطوطات قبل رقمنتها، فهذه الصيانة تمنع زيادة تلف المخطوطات مستقبلًا، وتؤدي إلى تقديم صورة رقمية مميزة لها.
3. تنفيذ عملية الرقمنة
تأتي هذه المرحلة، بعد تجهيز مكان الرقمنة، وأدواتها، وكادر العمل، وصيانة المخطوط. وللرقمنة في هذه المرحلة آليتان: الرقمنة النصية، ورقمنة الصورة؛ ففي الرقمنة النصية يُنقل نص المخطوطة لغويًا دون حفظ البنية الشكلية للمخطوط وفق صيغة رقمية، أما في رقمنة الصورة، فيُرقمن المخطوط كما هو، محتفظًا بسياقاته الشكلية الخاصة.
ويجب أن ننبه إلى أنَّ المخطوط العربي له صيغة شكلية متفردة. لذا، فمن المحبذ رقمنته وفق آلية الصورة الرقمية للحفاظ قدر الإمكان على بنيته السيميائية.
4. معالجة المخطوطات المرقمنة
بعد الانتهاء من عملية الرقمنة، لا بد من تحسين دقة المخطوط المُرقمن، وذلك باستخدام وسائط وبرامج خاصة، فيظهر المخطوط المُرقمن وفق أفضل صيغة ممكنة.
5. التقييم
لا بد من وجود مختص يراقب عملية الرقمنة باستمرار، ويتأكد من جودة المخطوطات المُرقمنة، ويقارنها بالنسخات الأم، وذلك لتلافي أي خلل قد يحدث في أثناء عملية الرقمنة.
6. فهرسة المخطوطات المُرقمنة
في هذه المرحلة، تُفهرس المخطوطات المُرقمنة، لتُتاح للمهتمين بها عبر وسائط رقمية مثل الإنترنت أو الأقراص المضغوطة.
صعوبات الرقمنة
كلُّ عملية معرفية، تواجه صعوبات جمة. ومن أبرز الصعوبات في عملية رقمنة المخطوطات ما يلي:
- انتشار المخطوطات العربية في أنحاء العالم، وصعوبة الوصول إليها، ما قد يعيق عملية رقمنتها.
- امتلاك بعض الأشخاص لمخطوطات نادرة، مع صعوبة إقناعهم بإعارتها من أجل عملية الرقمنة.
- التلف الكبير الذي تعرَّض له تراثنا المخطوط، ما يصعب عملية ترميمه ورقمنته.
- تباين أحجام المخطوطات العربية ونوعها، ما يصعب التعامل معها في أثناء عملية الرقمنة.
- تطلب عملية رقمنة المخطوطات وترميمها لميزانية مالية كبيرة، ما قد يعيق بدء المشروع، نتيجة غياب الممولين.
ختامًا، إنَّ عملية رقمنة المخطوطات العربية وإتاحتها للمستفيدين في مختلف أنحاء العالم، ستُحدث لا محالة نقلة مهمَّة وفاعلة في علم تحقيق المخطوطات، وذلك نابع من أنَّ هذه الرقمنة ستسهل على الباحثين والمحققين الوصول إلى أكبر كم من تراثنا المخطوط الذي سيُشتغل عليه، فيحلون عقبة من عقبات التحقيق، والمُتمثلة بصعوبة الوصول إلى المخطوطات العربية المنتشرة في مختلف أنحاء العالم. لذا، نقول: إنَّ عملية الرقمنة على الرَّغم من صعوبتها ومتطلباتها هي عملية مركزية تصب في مصلحة تراثنا المخطوط من جهة، ومصلحة الباحثين والمحققين من جهة ثانية. ما يعني أنَّ العناية بها ستنعكس في السياقين البحثي والتراثي المادي انعكاسًا إيجابيًا فاعلًا.
قد يعجبك أيضاً
هل تُسهم الجوائز المالية في دعم الكتاب وتطوير صناعة النشر المزيد