مقالات

تاريخ أدب الرحلات – الجزء الأول من سلسلة أدب الرحلات

يستعرض المقال تاريخ أدب الرحلات من زمن ابن بطوطة وصولًا إلى الرحلات الحديثة، مع التركيز على دور الرحالة العرب في توثيق الأحداث والعادات والثقافات المختلفة.
منذ أن بدأ محمد بن جُزي الكلبي تدوين رحلات أمير الرحالة المسلمين، محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي، المعروف بابن بطوطة، في تحفته «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» قبل أكثر من سبعة قرون، وبالتحديد في منتصف القرن الرابع عشر، وحتى القرن الثامن عشر، ظل أدب الرحلات ذا رونق مميز، خاصةً إذا ما أُخذ في الاعتبار غياب وسائل النقل السريعة في عصر ما قبل البخار. كانت الرحلات المدونة هي الوسيلة الوحيدة ربما للتعرف على عادات وتقاليد مدن لم تكن زيارتها متاحة في حينها، ورؤية شعوبها – افتراضيًّا – عن قرب.
وقد ظل أدب الرحلات رائجًا ومطلوبًا؛ رغم اقتصار تدوينه على قلة قليلة، ولم يكن هناك مجال للرحلات السياحية الترفيهية، أو رحلات الاستكشافات العلمية. وكان التنقل بين البلدان يقتصر على الأغراض العسكرية، أو الأنشطة التجارية، أو فقط بهدف البقاء على قيد الحياة بسبب الحروب أو الأمراض الوبائية أو الكوارث الطبيعية. لكن على الرغم من ذلك كانت هناك بعض الاستثناءات مثل ادعاء هيرودوت أنه سافر للتثبت من المعلومات التي سمعها عن بعض الأماكن؛ ومن هنا نشأت نظرية الرحلة كوسيلة لاستكشاف العالم وتحصيل المعرفة. كما بدأت رحلات الحج الديني منذ العصور الوثنية القديمة مثل قدماء المصريين، والإغريق، وحضارات المايا، وغيرها. ثم جاءت الأديان السماوية فكان اليهود والمسيحيون يحجون للقدس، بينما يحج المسلمون إلى مكة. وهناك العديد من الأمثلة على تلك الرحلات، مثل رحلة الإمبراطورة سانت هيلانة إلى الأراضي المقدسة في القرن الثالث الميلادي.
في أوائل العصور الوسطى أخذ بعض المؤرخين نهج تسجيل الرحلات من باب التسجيل للتاريخ العام، وفي أوائل القرن السادس عشر ظهرت فئة مكلفة بالتدوين من قبل الملوك الحاكمين، وذلك بغرض توثيق الاكتشافات الجغرافية مثل المؤرخين المسؤولين عن تسجيل رحلات كولومبوس ومشاهداتهم في الأماكن المكتشفة، وما تشمله من وصف طبيعة البلاد وحصر لخيراتها، وكذلك وصف للشعوب التي كانت تقطنها وعاداتهم ومعتقداتهم الدينية، ورحلات المستكشفين.
لم يكن ابن بطوطة هو الرحالة الوحيد الذي جاب العالم وزار قاراته الثلاث المعروفة في ذاك الحين، بل سبقه آخرون، ربما كان أشهرهم من المسلمين الإدريسي وابن جبير وابن فضلان وابن حوقل والمسعودي، ومن غيرهم ماركو بولو. لكن ظل ابن بطوطة متربعًا على عرش الأكثر ترحالًا بمجموع مسافات تخطت مئة وعشرين ألف كيلومتر، وما يعادل أربع وأربعين دولة على خارطة العالم الحديث، ليتخطى بذلك حتى من تبعه من الرحالة كماجلان وفاسكو ديجاما وكولومبوس وجيمس كوك وغيرهم. وقد حكى ابن بطوطة في كتابه عن رحلته إلى مصر. تحدث عن علماء الإسكندرية، وكرامات الأولياء، وتحدث عن رحلته إلى بلاد الشام وإلى المسجد الأقصى، وإلى بلاد الحجاز والحرمين في مكة والمدينة المنورة. أما كتاب «رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة» فقد تحدث فيه ابن فضلان عن علاقة العرب بالأمم الأخرى، وهجرتهم إليها طمعًا في وضع اقتصادي أفضل. بينما تحدث ابن جبير عن رحلته إلى مصر، وأبرز منشآتها العمرانية، وزيارته لبيت الله الحرام وللمسجد النبوي الشريف، وذكره لتاريخ المسجدين الكريمين.

لقد استطاع الرحالة العرب إثراء المكتبة العربية بهذا النوع الفريد من الأدب، ووثّقوا فيه رحلاتهم جغرافيًّا وتاريخيًّا، واجتماعيًّا، وثقافيًّا. ودونوا عادات الشعوب التي قابلوها، وأرّخوا للأحداث السياسية. حكوا عن الملوك والأمراء وبلاطهم، عن المعارك والحروب، الجنود والقادة، الشعراء والعامة، وتركوا إرثًا هائلًا أصبح لاحقًا مرآة لهذه المجتمعات وتاريخها.

لكن، ومع توفر وسائل النقل الحديثة خَفَت نجم أدب الرحلات قليلًا، حتى إذا ما جاء القرن العشرون حاملًا معه نسائم ثورة الاتصالات وتقنية المعلومات بات الأمر بعيدًا عن بؤرة اهتمام الكثيرين، مدونين وقراء، واستبدل راغبو السفر مواقع التواصل الاجتماعي ومشاركة خبرات السفر بكتب الرحلات التقليدية. صار العالم على بُعد سنتيمترات قليلة، لا يحتاج لأكثر من لوحة مفاتيح وشاشة ومتصفح للإنترنت. لكن في الوقت نفسه فقدت التجربة إنسانيتها، تجردت من المشاعر والأحاسيس، وصارت الأرقام والعناوين هي المحرك الرئيس للقصة. لم يعد أدب الرحلات بصورته المعروفة متداولًا، وانصرف الرحالة إلى منصات إلكترونية عوضًا عن الكتب. أصبح Trip Advisor ومراجعات زواره مرجعًا لرحلات القرن الواحد والعشرين. صورة وبضعة أسطر لعشاء في مطعم، أو وصف لمتحف أو رحلة إلى مَعْلم ثقافي. صحيح أن الموضوعات صارت أقصر من أن تكون وافية، مجرد انطباعات سريعة أحيانًا، عاطفية بعض الوقت، ومبتورة على الأغلب، لكنها متناسبة مع سرعة العصر.

لذلك، تُعد محاولات إحياء أدب الرحلات بصورته القديمة في البداية أقرب لمهمة انتحارية منها لمحاولة تدوين أو عودة لصنف مهجور من الأدب، في ظل عزوف قراء الجيل الحالي عن الانخراط في أي نشاط لا يتسم بالسرعة، بصورة أدق: أي ارتباط يتطلب التزامًا طويلًا مثل قراءة تفاصيل رحلة ما لأحد الشجعان الذين قرروا المخاطرة بالكتابة والتدوين. لكن هؤلاء الشجعان حاولوا ونجحوا، جاء الكتاب تلو الآخر ليُلقي حجرًا في الماء الراكد. محاولات عديدة، حتى وإن كانت متشابهة، لكنها أعادت الحياة لهذا الصنف وضخت فيه دماء جديدة.

وقد جاءت فكرة سلسلة عن العشق والسفر لتعزز هذا التوجه وتضيف له بُعدًا جديدًا. حين قررت الكتابة عن السفر، لم تكن الجغرافيا هي هدفي الوحيد، فالإنترنت الآن لا تبخل على زوارها، والخرائط لم تعد هي سفير الرحلات الوحيد. أحب التاريخ وقصص الماضي تأسرني، أعشق الغوص في عادات الشعوب، والبحث في تاريخهم المشترك مع مصر. لذلك حين قررت بدء هذه المغامرة، استعنت بهذه المكونات للخروج بخلطة جديدة، خليط من التاريخ والجغرافيا، السيرة الذاتية وأدب الرسائل، عادات الشعوب وقصصهم، قصص عديدة عن العشق … وعن السفر.
Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *