منذ عدة أشهر، أعلنت «سيري هوستفيد» زوجة «بول أوستر» عبر حسابها على إنستجرام أنَّ أوستر يقبع في المستشفى التذكاري في نيويورك، وكان أوستر قد شُخِّص سابقًا بإصابته بمرض السرطان، وكان هذا الخبر ثقيلًا على قرَّائه ومتابعيه. ويبدو أنَّ أوستر أجاد التعامل مع هذه الأزمة الصحية، لا سيما أنَّه نشر مؤخرًا روايته «بومجرانتر».
عن الفقد والآلام المتخيلة
تدور رواية «بومجرانتر» حول الفقد المتعلق بمرض السرطان، ولربما كتبها أوستر مدفوعًا بمحنته الخاصة، حيث يتشابه مع بطل الرواية «ساي» في عدة أشياء، منها: أنه عجوز سبعيني، وكاتب مرموق له عدة مؤلفات منتشرة حول العالم. فساي يتشابه مع أوستر في النقاط المركزية، ما يوحي أنَّ هذه الشخصية هي مرآة لشخصية أوستر وانعكاس لها، فكأنما دُسَّت ملامحٌ من السيرة الذاتية لأوستر في ثنايا شخصية ساي.
فقدَ ساي زوجته من قرابة السنوات العشر، بسبب حادث عرضي، ومن بعدها يعيش في جو يغلفه الحزن والانكسار، ويتحول تدريجيًّا إلى عجوز هش ترهقه أبسط أحداث الحياة المفاجئة.
يعمل ساي على مشروع كتاب فلسفي، يتمحور حول تفسير ألم فقد الأشخاص وتشابهه مع نظرية الطرف الشبحي، وتذهب هذه النظرية إلى أنَّ المريض الذي يُبتَر أحد أطرافه، ينمو له في ذهنه طرفٌ بديل، فيقوم بسلوكيات وكأنَّ طرفه لم يُبتر، بل يشعر أحيانًا بألم فيه، على الرغم من أنَّ الطرف ليس موجودًا أساسًا. يختلف الأطباء في التفسير النفسي لتلك الظاهرة، ويبدو أنَّها تنشأ من عدم قدرة الشخص على تجاوز صدمة الفقد، ورفضه للتغيير الكلِّي الذي أصاب حياته.
يحاول «ساي» تفسير معنى حياته قبل فقد زوجته وبعده، فينبش في ذكرياته، ومذكراتها، للوصول إلى معنى عام للسنوات التي عاشها سابقًا، والسنوات التي تبقت في عمره أيًّا كان عددها.
الحياة والكتابة بوصفهما مصادفة قدرية
نشر أوستر عشرين رواية، وعدة دواوين شعرية، بالإضافة إلى أربع سير ذاتية، تُعتبر محورية في مشروعه السردي. وقد قسَّم أوستر حياته على ثلاثة كتب سيرية، وهي: «تقرير من الداخل» عن فترة الطفولة والتكوين، و«a hand to mouth» أو «تباريح العيش» كما صدر في نسخته العربية، وهو عن فترة شبابه وتسكعه في باريس، و«حكاية الشتاء» عن فترة الكهولة. بينما نشر قبلها جميعًا كتابه الأثير «اختراع العزلة» عن علاقته بأبيه، والذي شكَّل نقلة هائلة في مسيرة أوستر، ولربما هو ما خلق شهرته المحلية والعالمية.
في مقال له بعنوان «لماذا أكتب؟» يحكي أوستر عن عدة مصادفات غير منطقية شكلت مفهومه عن الحياة والكتابة. من تلك المصادفات ما حكاه عدة مرات عن الحادثة التي حصلت مع زميل له، وهو في الرابعة عشرة من عمره، واسمه رالف.
هذا الزميل وأوستر كانا قد ذهبا إلى معسكر صيفي في الإجازة. كان المعسكر تجربة شديدة الثراء، إذ يقضي الصبية الوقتَ بين لعب البيسبول والسلة والقراءة وحفلات السمر، وقد قرر مشرفو المعسكر في تلك الليلة في أواخر يوليو سنة 1961 القيام بفعالية مشي في الغابة، فخرجوا لكن المطر فاجأهم؛ مطر صيفي شديد. وعندما قرر المشرفون العودة إلى المعسكر، اكتشف الجميع أنهم قد تاهوا. بدأوا بالبحث عن مكان يحتمون فيه من البرق والرعد، حتى وجدوا مرجًا مُسيَّجًا بسلك شائك، وكان على الجميع الزحف على بطونهم أسفل فرجة في السلك الشائك حتى يدخلوا المرج. عبر الأطفال واحدًا تلو الآخر، وقبل أن يعبر أوستر، صعقهم البرق جميعًا، واقتنص صديقه رالف الذي كان يعبر قبله مباشرة. ثانيتان أو ثلاث ثوان فقط كانت تفصله عن الموت الوشيك، في مصادفة غريبة وغير مفهومة.
قبل تلك الحادثة بسنوات، حدثت لأوستر مصادفةٌ أخرى، ليست على المقدار نفسه من الألم، ولكنها مصادفة غريبة وغامضة. كان أوستر مع والديه ومجموعة من أصدقائهما في مباراة للبيسبول -ذلك هوسه الذي لا يفنى- وفور خروجهم من الملعب التقوا بويلي مايس، أسطورة البيسبول الشهير. جُنَّ جنون أوستر الصبي، ونادى عليه ليحصل على توقيعه باعتباره بطلًا خياليًّا من أبطاله. قابل مايس طلب الصبي بترحيب كبير، وثرثر معه ومع المجموعة قليلًا، وعندما طلب قلمًا ليوقع الأوتوجراف لم يجده مع أي أحد منهم، فابتسم ومضى في طريقه. تألم أوستر لضياع فرصة عمره، وظل يبكي بعدها أسبوعًا. ومن وقتها وهو يحمل قلمًا في جيبه، لأنه لا يعرف متى ستأتيه اللحظة المناسبة.
من صدفةٍ بدأ العالم
يفسر أوستر العالم كله بطريقته الأثيرة؛ من خلال المصادفة. فالمصادفة جمعت بينه وبين زوجته الأولى «ليديا ديفيس»، لكنهما انفصلا بعد علاقة متوترة استمرت ثماني سنوات. كانا من عالمين منفصلين تمامًا؛ هكذا قال أوستر عن اضطراب العلاقة بينهما. وربما مهد بذلك التفسير لاستقرار علاقته بسيري.
التقى أوستر بسيري مصادفةً في لقاء شعري، ليتزوجا بعدها بعام. وقال أوستر عنها في حوار في جريدة إكسبريس الفرنسية «سيري هي مدار حياتي؛ غيَّرت رؤيتي للعالم. كنتُ وحيدًا، ومطلِّقًا، وكئيبًا، وبلا أمل، ولولا هذا اللقاء الذي حصل مصادفة في نيويورك، ولولاها، لكانت هذه السنوات الثلاثون مغايرةً كل المغايرة، إن قارئتي الأولى اليوم هي سيري».
يذهب أوستر دومًا إلى أنَّ أجمل الأحداث في حياته تحدث دون ترتيب منه، بمصادفاتٍ محضة، حتى أبطال رواياته، الذين يتخبطون في أحداثها، محكومين بمصادفات غير مرتبة وصادمة في آن معًا، تلك المصادفات تعيد تشكيل وعيهم بالعالم من جهة وبذواتهم من جهة ثانية.
حتى في لحظات يأسه من الكتابة، كانت الكتابة تجره إليها بمصادفة هنا أو هناك. فبعد أن أنجب من زوجته الأولى ليديا أول أطفاله، مرَّا بظروف مادية صعبة اضطرتهما للقبول بأي عمل أيًّا كان. وقتها جاءته فكرة اختراع لعبة بيسبول، تُلعب بواسطة الكروت. أنفق شهورًا في ترتيبها وتصنيفها، سعيًا وراء هوسه الطفولي بالبيسبول وبكل ما يخصه، حتى إن أي عمل من أعماله لم يكن يخلو من الحديث عنه. بعد ما وصل باللعبة إلى شكلها النهائي، دار بها على شركات الألعاب، ثم معارض الألعاب الكبرى، ووكلاء الألعاب، واستغرق عامًا كاملًا في طرق الأبواب، حتى تملَّكه اليأس وشعر أن الظروف المادية ستفرمه لا محالة، بل لم يعد يحلم بأطنان من الذهب، وإنما يحلم فقط بمجرد راتب مناسب يمكِّنه من البقاء.
وفي ليلةٍ، لم يستطع النوم بسبب التفكير في أوضاعه، فجاءته فكرة رواية بوليسية بحبكة مغايرة عن السائد في الروايات البوليسية وقتها. في الصباح جلس إلى الطاولة واستغرق في الكتابة، لتكون النواة لروايته «ثلاثية نيويورك» التي ستؤسس مجده فيما بعد. يتذكر أوستر تلك اللحظة، وأنه لولا مصادفة حدثت يومها في الصباح عندما رُفضت لعبته، لما استمر في الكتابة، ولكان أحد صناع الألعاب إلى اليوم. لربما اختارته الكتابة، أو كما يقول في بداية كتابه تباريح العيش «تختارنا الكتابة أكثر مما نختارها. وبمجرد أن يدرك المرء بأنه لا يصلح لأي شيء آخر، فعليه أن يشعر بأنه مشرف على اجتياز طريق طويل وشاق خلال ما تبقى من عمره».
استخدام الذات لفهم العالم
لا يجيب أوستر إجابةً مباشرة عن التساؤل المتمحور حول سبب الكتابة، لكنه في حوار آخر في موقع «lit hub»، يقدِّم إجابة تصلح أن تكون تفسيرًا لرغبته في الكتابة. يقول أوستر لمحاوره «أريد أن أبقر أحشاء كل شيء. مثل مهندس معماري يقيم بيتًا، كاشفًا فيه عن جميع الأنابيب والأسلاك».
من تلك الرغبة المحمومة في تعرية الأشياء والمفاهيم وفضح معانيها الأصلية، نشر أوستر كتابه «اختراع العزلة» عام ١٩٨٢، بعد وفاة والده مباشرة، متأملًا في علاقتهما سويًا، ومحاولًا إعادة تأريخ سيرة والده سام أوستر، الذي يعتبره وفق تعبيره «بورتريه» لرجل غير مرئي.
اتسمت العلاقة بين بول وأبيه سام بالجفاء والتباعد. فسام كان رجلًا انطوائيًّا، ذا صفات غريبة، قليل الكلام، قليل الأفعال، ولا يعبر عن مشاعره بأية طريقة عادية.
ينطلق أوستر في كتابه المتمحور حول أبيه من حادثة حصلت مع الأب في صغره، حيث شاهد سام أمه وهي تقتل أباه -جد بول أوستر- بسكين المطبخ. غيَّرت تلك الحادثة حياة سام؛ تفككت الأسرة، وعاش الأولاد في فقر مدقع. عانى سام كثيرًا ليتجاوز الآثار النفسية والمادية لتلك الحادثة، بيد أنَّه لم يتخلص منها تمامًا. فقد اتسم ببخله الشديد وقسوته، ولم يرغب في أي شيء، وظل منعزلًا عما حوله حتى أولاده، أو كما يصفه أوستر «لم يكن حاضرًا في كل ما فعل، لم تكن شخصيته الحقيقية من تقوم بتلك الأنشطة كلها، ففي أعماقه شعورٌ ضارب بأنه رجل غير مرئي، خفي عن الآخرين، وعلى الأرجح حتى عن نفسه».
عندما نشر أوستر اختراع العزلة، قوبل بهجوم حاد من أسرته، إذ كذَّبوا فحوى الكتاب، وذهبوا إلى أنَّ بول يفتري على أبيه وأسرته. لم يعبأ أوستر بتلك الادعاءات، وإنما استسلم للذة الكتابة وشيطانها، متتبعًا هوسه الأولي في تعرية الحقائق وتأملها. فهو وفق تعبيره لا يكتب سيرة حياته أو حياة والده، وإنما يستعمل ذاته ليستكشف أسئلة وجودية تهم كل البشر.
أغرت لعبة «استعمال الذات» بول أوستر، فاتبعها في عدد من أعماله، أهمها ثلاثيته الشهيرة «ثلاثية نيويورك». ففي الثلاثية، يستخدم أوستر ذاته بوصفها شخصية روائية، من خلال التباين بين الذات الكاتبة والذات الروائية، أو بين انعكاس أوستر الحقيقي وأوستر المتخيل، يطرح أسئلة عديدة حول نفسه وأفكاره الخاصة، وعلاقاته أيضًا، فلا يخجل من دفع شخصيات أخرى حقيقية في رواياته، كزوجته سيري على سبيل المثال.
في أحد فصول الثلاثية يستكشف المحقق بعض الأوراق التي كتبها أوستر المتخيل عن زوجته سيري، والتي لا تختلف كثيرًا عما ردده أوستر في حياته الحقيقية، عن أن سيري هي أجمل صدفة غيرت حياته تمامًا.
إن أجمل ما في كتابات أوستر هو قدرته على إثارة أسئلة عميقة حول معنى الحياة والوجود، من خلال أسلوب سردي بسيط ومباشر، يتسم بالصدق والعفوية.
قد يعجبك أيضاً
«لأنك الله» رحلة روحانية مؤثرة في أسماء الله الحسنى يقدمها المزيد