أيهما أسبق؛ القراءة أم الكتابة؟ يمكن للخبرة المباشرة أن تنبئنا بإجابة هذا السؤال، فالطفل قبل أن يخطَّ سطرًا واحدًا يتعلم أولًا قراءة الرموز والعلامات. لكن كيف لإجابة كهذه أن تنطبق على أول مجتمع عرف القراءة في التاريخ؟ ألم يكن من المنطقي أولًا الاتفاق حول معايير مستقرة لكتابة الرموز والعلامات قبل قراءتها، هل يمكن فعلًا تخيل وجود القراءة قبل ظهور الكتابة؟ كيف نقرأ ما لا نعرف كيف نكتبه؟
القراءة قبل ظهور الكتابة
قد يبدو من غريب القول إن القراءة تسبق الكتابة، لكن التطور التاريخي يخبرنا أيضًا بهذا الأمر؛ فالكتابة ليست حدثًا تاريخيًّا أسس لظهور القراءة؛ إنما هي مرحلة تاريخية متأخرة من مراحل تطور القراءة عند الإنسان. ربما توجد مجتمعات لا تعرف الكتابة، لكن لا توجد مجتمعات لا تعرف القراءة. فكيف ذلك؟
يمكن أن نُعرِّف القراءة تعريفًا عامًّا بوصفها عملية إدراكية يستقبل الإنسان بموجبها معلومات من العالم الخارجي عن طريق فك الرموز والعلامات للوصول إلى المعنى. ووفقًا لهذا التعريف، فالقراءة هي توظيف واعٍ للحواس في خدمة الإدراك. وفي نطاق هذا التعريف يمكننا فهم فكرة وجود القراءة قبل ظهور الكتابة بوصفها عملية.
الآن إذا تخيلت نفسك منذ عشرين ألف عام أو يزيد تجوب أنحاء الغابة برفقة جماعة من الصيادين وجامعي الثمار بحثًا عن قوت يومك، سيكون عليك أن تنتبه إلى ما يحدث حولك من أشياء، وكذلك سيتعين عليك أن تكون بارعًا في عمليات تفكيك شفرة الرموز والعلامات التي قد تكون ضرورية من أجل مساعدتك على النجاح في العثور على ما تريد أو في الابتعاد عما تخاف.
ليس شرطًا أن تحل الفريسة أمام ناظريك مباشرة لتعي وجودها، وإنما قد يكفي لهذا الأمر وجود دلالة غير مباشرة على وجودها تتمثل في الرمز أو العلامة، بل قد تساعدك هذه الدلالة غير المباشرة على ما هو أبعد، إذ يمكنك من خلال فك شفرة الرمز التمييز بين الفريسة والمفترس؛ بين آثار أقدام الأسود وآثار أقدام الغزلان. قد تساعدك آثار أقدامك أو أقدام جماعتك أيضًا على التماس طريق العودة إذا ما حدث وضللت الطريق بمفردك. هكذا ظهرت الرموز والعلامات في الطبيعة قبل أن تظهر في الثقافة، وتهيأت أدمغتنا للتعامل معها من خلال ما سنطلق عليه لاحقًا فعل القراءة.
وإلى جانب وجود الرموز والعلامات في الطبيعة من حولك، كانت الرموز والعلامات البدائية جزءًا من ثقافة جماعات الصيد وجمع الثمار. كالإيماءات المتفق عليها مثلًا بين أعضاء الجماعة من أجل التحرك المخطط نحو الفريسة، والتي سيكون عليك أن تُميِّزها بدقة، وأن تفهم الخرائط البدائية التي قد يخطها قائد الجماعة على الطين أو الرمال من أجل نصب الفخاخ للفرائس أو شن الهجمات على جماعات مجاورة. وسيكون عليك أيضًا أن تميز بين علامات محيطك الطبيعي وبين أي علامة من صنع الإنسان قد تجدها محفورة على لحاء الأشجار أو على الأحجار. فقد تستدل على زيارتك السابقة لأحد الأماكن من علامة سبق وأن تركتها فيه، وقد يشير عثورك على علامة غريبة إلى وجودك بمقربة غرباء يجب الحذر منهم، وربما تدلك علامات أخرى في بقعة ما من الأرض على شواهد قبور لأصدقاء وأحباب قد فارقوا الحياة منذ سنوات، فينبعث فيك الشجن والحنين.
يمكن القول أيضًا إن وجود الفن في مجتمعات ما قبل الكتابة أدى إلى تعميق العلاقة البصرية بين العلامة واللغة. فرغم أن الرسم والنحت مثلًا لا ينطويان على علاقة مباشرة وصريحة مع اللغة، إلا أنهما يمكن أن يجسدا صورة واضحة للأسطورة التي يعتنقها أعضاء الجماعة، وأن يضفيا على طابعها الشفهي طابعًا بصريًّا تجسيديًّا يزيد من حالة الانسجام الشعوري والتناغم التصوري بين أعضاء تلك الجماعة.
القراءة مع ظهور الكتابة
كما رأينا، مهَّدت الطبيعة والثقافات البدائية والأشكال الفنية لفعل القراءة المقترن بالكتابة كما نعرفه اليوم. إن الكتابة اختراع بصري وظيفي يحمل بالأساس طابعًا لغويًّا غير جمالي، الغرض منه ربط العلامات والرموز والأشكال باللغة ربطًا واعيًا ومباشرًا بدلًا من ربطها بالانطباعات والتصورات بصورة غير مباشرة كما يحدث في الفن. إن الكتابة بمعنى آخر هي متحف فني يختص بعرض الأشكال والعلامات والصور ذات الطبيعة اللغوية غير الجمالية.
انتقل مفهوم القراءة مع ظهور الكتابة إلى مستوى آخر من التعقيد والتشابك، حيث أصبح نظام العلامات والرموز أكثر اعتباطية وتشفيرًا؛ فمعظم أنظمة الكتابة تخلت عن الطابع التصويري الذي يربط بين العلامة وبين مدلولها؛ مثل الربط بين رسم دائرة تنبعث منها الأشعة من كل اتجاه وبين الشمس، لصالح العلامة الاعتباطية التي لا ترتبط بالمدلول إلا من خلال العُرف اللغوي للجماعة، مثلما هو الحال حين نربط بين هذا الشكل لكلمة «شمس»، وبين ذلك النجم القريب الذي يضيء كوكبنا كل صباح.
وقد أدى تطور العلاقة بين العلامة ومدلولها إلى تطور في استعمال العلامات والرموز للإشارة إلى مدلولات تتجاوز المفاهيم المادية نحو المفاهيم المجردة مثل الحب، والعدل، والمساواة. كذلك ارتبطت العلامات والرموز بأنظمة نحوية، تضعها في تركيبات متنوعة، ليصبح بإمكانها أن تعبر عن أشياء أدق مثل الأزمنة والأجناس والأعداد وغيرها. كذلك ارتبطت بعض العلامات والرموز بالأنظمة الصوتية للغة كما حدث في أنظمة الكتابة الأبجدية، والألفبائية الساكنة، والمقطعية، وبهذه الطريقة أكسبت الكتابةُ العلاماتِ والرموزَ نظامًا تشفيريًّا معقدًا طوَّر عملية القراءة وزاد من تركيبيتها حتى باتت لقرون ممتدة عملًا يقتصر على النخبة لكونه يتطلب إعدادًا تعليميًّا خاصًّا.
أضفت الكتابة على عملية القراءة مزيدًا من الوعي، فمن ينتبه إلى آثار أقدام الحيوانات المطبوعة بتلقائية طبيعية على الأرض أو إلى صورة فنية نابعة من عفوية شعور رسام ما ليس كمن ينتبه إلى نص مكتوب، لأن الوعي بالمضمون في عملية قراءة المكتوب يتخذ شكلًا أوضح من الوعي البصري بالعمل الفني؛ فالعلامة لا تخاطب العين والشعور فقط من حيث كونها مرئية، بل تخاطب العقل من حيث كونها لغوية، بحيث تحمل إلى القارئ أشياء أخرى تتجاوز تبديها المرئي، كالصوت والمعنى وما يتولد عنهما من فهم وشعور. أي إن الكتابة استقلت بالعلامات والصور والأشكال عن المجال الفني، بتوظيفها لهم في النطاق اللغوي بوصفه نطاقًا جديدًا. لقد فتحت الكتابة لأول مرة المجال أمام الوعي الداخلي لأن يلتقي بنفسه ماديًّا خارج نفسه محفورًا على الحجر أو مسطورًا على الورق أو مطبوعًا في الكتب.
القراءة في مقابل الكتابة
يمكن القول مجازًا إن الكتابة هي المرآة التي تعرَّفت فيها القراءة إلى نفسها، وتشبيه المرآة هذا يعكس الطريقة التي ينظر بها القارئ إلى الكتابة على الدوام، من حيث إنها توحي إليه بتماثل بين الحقيقة والصورة، بينما تُشعره في الوقت نفسه بالطبيعة الشكلية لهذا التماثل. فكما تختلف الحقيقة عن الصورة، فكذلك تختلف القراءة عن الكتابة. القراءة مقدرة بشرية بينما الكتابة محض تقنية. الأولى ترتبط بالكلام والوعي والتفكير والحياة، أما الثانية فترتبط بالعلامة والشكل والصورة والمادة. وقد عبر الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا عن هذه الفجوة بما يسميه «ميتافيزيقيا الكتابة». ونتيجة لذلك، كان هناك شعور دائم بأن في القراءة ما هو أكثر من الكتابة، وأن الهدف من القراءة يتمثل باستمرار في الهروب من شيئية الكتابة، وفي تجاوز اختزاليتها.
ونسوق بعض الأمثلة على ذلك فيما يلي:
1.الطبيعة الصوتية للقراءة مقابل صمت الكتابة
يقول عالم النفس الأمريكي جوليان جينس صاحب كتاب «أصل الوعي: في تفكيك العقل المزدوج/The Origin of Consciousness in the Breakdown of the Bicameral Mind»: «إن القراءة في الألفية الثالثة قبل الميلاد كانت تتمثل في سماع الكتابة المسمارية؛ أي الهلوسة باللغة عبر النظر إلى الصور التي ترمز إليها، بدل قراءة المقاطع كما نعرفها». وهذا يعني أن فعل القراءة لم يكن انتقالًا من العلامة إلى صوت القارئ، بل من الصوت إلى العلامة، فقد كانت العلامة نفسها صوتًا يملك حقيقة واقعية؛ فالأفكار والقصص والأوصاف هي أصوات وجدت صداها نحو القارئ. لم تكن القراءة عملية تهجئة للحروف والكلمات ينجم عنها النطق والتفكير، بل كانت أصواتًا تعرض نفسها على القارئ، وبالتالي كان فعل القراءة ينتمي إلى الصوت لا إلى العلامة، وكانت القراءة العلنية تحظى بمنزلة كبيرة خاصة في التقاليد الدينية بالعبادات والطقوس.
احتقر العديد من قدامى الفلاسفة والحكماء الكتابة، وأبدوا حماسة كبيرة للخطابة والكلام. إذ نجد سقراط يقول: «العجيب في الكتابة هو أنها تُشبه الرسم إلى حد كبير. إن عمل الرسام يطالعنا كما لو أن اللوحات حية تنطق، إلا أنك عندما تستجوبها تحافظ على صمتٍ أزلي. ينطبق هذا على الكلمات المكتوبة: تبدو أنها تتحدث إليك، كما لو أنها ذكية للغاية، إلا أنك عندما تسألها والرغبة تحدوك في معرفة المزيد، فإنها تستمر في ترديد الشيء نفسه دون انقطاع». وهذا يعني أن الكتابة في حد ذاتها ميتة لأنها تُطابق بين العلامة والمعنى في كل مرة، أما القراءة فهي العملية التي يتولد عنها المعاني الرمزية والمجازية والتأويل والتفكير.
إن كراهية سقراط للكتابة، وعشق الرومان للخطابة، وتحريم تدوين القرآن في بداية الدعوة الإسلامية، واستعمال المسلمين اللاحقين لتعبيرات من قبيل «روي عن فلان» أو «سمعت فلانًا»، وترجيح كفة أهل الحديث في المعارك الكلامية على حساب كفة المعتزلة في أن القرآن هو كلام الله الأزلي، وكلماته ليست حادثة، جميعها في رأينا أمثلة تدل على المكانة الثانوية للكتابة في فعل القراءة. ونتيجة لذلك، لم تعرف الكتابة في بدايتها عمومًا اعتناءً بالمسافات بين الحروف والكلمات، ولم يولِ الكتبة الأوائل اهتمامًا بتقسيم الحروف إلى وحدات لفظية منفصلة، بل كانت الكلمات تكتب متراصة بلا فواصل ولا علامات توضيحية، وتطلَّب دخول هذه التقنيات إلى الكتابة وقتًا طويلًا. فلم يكن الاتكاء على الكتابة إلا بغرض تجنب نقائص النسيان والغفلة، أما القراءة فكانت هي العمل المقترن بالكلام ومن ثم بالفكر والحياة. وبالتالي كان لكل ما يدفع باتجاه الاستقلال عن المكتوب، مثل الحفظ والاستحضار والتذكر، منزلة كبيرة عند القدماء.
2.الطبيعة ما بعد البصرية للقراءة
في القراءة تتحول أشكال العلامات المرسومة إلى أصوات أو أفكار أو معاني، وبمجرد تحولها تكون قد غادرت عالمها الشيئي إلى عوالم العقل واللغة والخيال.
إن القراءة توهُّم بمماثلة أشكال الحروف والعلامات لعوالمنا اللغوية الداخلية، وكأن هذا الشكل الماثل بين قوسين (أ) يحمل اسم «ألف»، وكأنه يَحثنا على نطقه بصوت الهمزة، وهو صوت حنجري انفجاري، لا هو بالمهموس ولا هو بالمجهور، وعند نطقه لا يُسمح للهواء بالمرور من الحنجرة، حيث تُسَدُّ فتحات أوتار الأحبال الصوتية ثم تنفرج هذه الأوتار فيخرج الهواء محدِثًا صوتًا انفجاريًّا. وعندما نضع هذا الحرف/الشكل في تسلسل معين مع أحرف/أشكال أخرى تكون النتيجة ظهور أشكال مجمعة تمثل وحدة لفظية هي الكلمة، مثل «أسد» أو «أرنب» أو «كأس»، وبدورها توضع هذه الكلمات في تسلسل لتنتج جملًا والجمل لتنتج فقرات وهلمَّ جرًّا.
إننا حين نكتب كلمة «أسد» نملأ الفراغ البصري بهذه العلامات (أ) (س) (د)، أما عندما نقرأ هذه الكلمة فإننا نملأ الفراغ الصوتي والذهني معًا؛ حيث يتولد عن وقوع العين على هذه العلامات حركة عضلية تولد الصوت نفسه الذي نستخدمه للإشارة إلى ذلك الحيوان المفترس، كما يتولد عن التفكير في هذه العلامات صورة ذهنية تماثل الصورة الواقعية لهذا الحيوان.
إن الطبيعة البصرية لعملية القراءة لا تمثل سوى قشرتها الأولى، بل يمكن القول إن غياب هذه الطبيعة البصرية لن يؤثر على هذه العملية في بعض الحالات، مثلما هي الحالة في قراءة المكفوفين مثلًا. ففي عام 1880 وُلدت الكاتبة الأمريكية المعروفة «هيلين كيلر» التي أصيبت بالحمى القرمزية في سن تسعة عشر شهرًا ما أفقدها السمع والبصر تمامًا. ورغم ذلك تعلمت كيلر القراءة باللمس، وكتبت خلال حياتها 14 كتابًا، وتحكي عن تجربتها فتقول:
«سرعان ما تعلمت أن كل كلمة من الكلمات تعني شيئًا أو عملًا أو صفة وكنت أملك إطارًا أصفف فيه الكلمات بعضها خلف بعض لأصنع منها جملًا قصيرة؛ إلا أنني قبل تثبيت الجمل داخل الإطار كنت أحاول تصور الأشياء. عندما وجدت مثلًا الشريط المحتوي على كلمات (دمية، هي، على، فراش) قمت بوضع كل اسم من هذه الأسماء على ما يقابله من الأشياء، ثم وضعت دميتي على الفراش وإلى جانبها كلمة هي، على، فراش مما كان يساعدني على تكوين جملة مفيدة من هذه الكلمات، وفي الوقت نفسه تصور محتوى الجملة بمعونة الأشياء».
هذا يعني أن فعل القراءة قد يحدث في أنظمتنا الحسية والذهنية باستقلال تام عن الوظيفة البصرية أو الصوتية، بل إن الأبحاث العصبية تشير إلى إمكانية تعطل فعل القراءة، رغم عمل الوظائف الصوتية والبصرية بكفاءة، كما يظهر في مرض «عسر القراءة» على سبيل المثال.
وختامًا يمكن القول إن عملية القراءة لا ترتبط من الناحية التاريخية بظهور الكتابة، فقد قرأ البشر قبل أن يكتبوا بآلاف السنين، فالكتابة ليست إلا مرحلة من المراحل التي تطور معها فعل القراءة إلى مستوى أعقد، وبقيت القراءة بعد اكتشاف الكتابة متجاوزة لشيئية الكتابة من خلال ارتباطها بالصوت والفكر والوعي والحياة، في مقابل ارتباط الكتابة بالعلامة والصورة والمادة.
قد يعجبك أيضاً
بين السهولة وإرهاق العين … هل تقنعك مميزات كندل وتجعلك المزيد