لا أدري هل أدعوها نوفيلا لقِصر صفحاتها؟ أم أدعوها روايةً لعِظَم محتوياتها وكثرة إسقاطاتها؟ فبرغم قِصَرها فإنها حوت الكثير من المشاعر والأحداث المهمة.
الأمر الذي تكرهه خولة أكثر من الشيخوخة هو التصابي، والأمر الذي تكرهه أكثر من التصابي هو أمريكا. ترى خولة أن التصابي والتأمرك أمران متلازمان، فلهذا قرَّرت أن تقوم بكل فخر بإظهار شيخوختها بشعر أشمط وغضون حول الفم، وكيس جلدي متدلٍّ حول الرقبة، وترى أيضًا؟ من عيوب الشيخوخة عندما تريد أن تقوم بتغيير مصباح، أو القيام بفتح البرطمانات، وشعورها بازدياد توحُّش البيت في الصباح الباكر، وكذلك في المساء.
فخاخ منصوبة لأمومة معطلة
تكتشفُ خولة متاهة الصَّمتِ — وهي متاهة مؤلَّفة من غيابِ اللغةِ المحض، لا من قصورها — وتتحسَّسُ جدرانها كل صباحٍ وكل ليلة، عندما تأكلُ وحيدة؛ إذ يندر أن يرغب أيٌّ من يوسف وحمد في الأكل في موعد محدَّد؛ فكلاهما يُفضِّل أن تُرسَل صينية الطعامِ إلى غرفته في الوقت الذي يشتهيه، وكان وجودهما في البناءِ نفسه — المدعوُّ بالبيت — يملؤها مرارة، لكنها تستأنسُ بالاحتمالات، تُعوِّل عليها؛ أن يمرَّ أحدهما بها صدفة، ويراها جالسةً أمام التلفزيون مع علبة الزبادي وأصابع الخيار، ويقرِّر أن يأخذ قضمة، ولهذا السبب فإنها تقوم بملء البطولة بالشوكولاتة والفستق علَّ أحدهما يمر عليها كي يؤنس وحشتها، ممَّا جعلها تتساءل: «إن كانت الشَّيخوخة والوحدة أمرين متلازمين».
«أمريكا ليست بلدًا آخر، أمريكا هي البلد، بألف ولام التعريف، والآخرون هم الآخرون.»
من الأشياء التي أبرزتها الكاتبة قيام أمريكا بتحرير الكويت في فبراير 1991م (لم أكن أعرف عنها سوى القليل)، وكيف قامت هي وزوجها قُتيبة بتوزيع البسكويت والقهوة على قوات التحالف، وكيف انبهرت بلونهم الأبيض، خاصةً الشقر منهم أصحاب الأعين الملونة، وأطوالهم الفارعة، وقيامهم بعبور القارات فقط لإنقاذهم.
خولة، الأم لثلاثة أبناء: ناصر ويوسف وحمد، التي تظهر في البرامج التلفزيونية وتعرض آراءها حول المجتمع بصورة قاسية ولكنها حقيقيةً وواقعية، ولكن لا أحد يقبل أن يتم نقده، ولكنها قوبلت بسخرية وهجوم المجتمع، فأصبحت حواراتها عبارةً عن مجرد فيديوهات قصيرة وملصقات ساخرة وصلت لدرجة أن تبادلها أبناءها في محادثاتهم. لم تكن خولة مثاليةً مع عائلتها كما كانت تدعو في حواراتها؛ فقد كانت علاقتها ببِكرها ناصر في انحدار عظيم، بالرغم من تفضيلها إياه على إخوته الباقين حتى وصلت علاقة أبنائها إلى منحدر الغيرة.
«إنها تتناسى دائمًا حقيقة أنها تخلَّت عنه في أصعب أيام حياته، وما لا يفهمه ناصر، أنه اضطُرَّ بعد وفاةِ والده إلى أن يفقد أمَّه أيضًا، أن يتيتَّم من الجهتين؛ تركته خولة في رعاية جدَّته شهورًا دون أن تتَّصل.»
ناصر الذي نشأ في المدرسة الأمريكية وتشرَّب اللغة الإنجليزية والثقافة الغربية لدرجة عجزه عن معرفة ثلاثة دول عربية ممن تحيط بالكويت، تمنَّى من والدته أن تقبله وتُحبَّه كما هو بلغته واختلافه، ليصطدم بعدم توافقه مع والدته لينتهي به الأمر بالعيش مع جدته قاطعًا كل الصلات مع والدته، ويراها فقط وقت العزائم، وكيف عانى من الاغتراب النفسي والتمرد، ومن دلالات هذا قيامه بالكثير من عمليات التجميل والنفخ، ولقد شرب الخمر في نهار رمضان ونسي نسيانًا كليًّا فريضة الصلاة، وفي الوقت نفسه انتظرت منه والدته أن يُبادر بالاعتذار؛ فالعادات تطالِب دومًا الابن بالاعتذار لأبويه، وهنا وقع الخصام من أثر العناد، وأصبح سبيل وصول خولة الوحيد بناصر هو تصفح مواقع التواصل الاجتماعي.
لا تفوت قراءة: «الأفق الأعلى» .. الموت مَدخلًا لفهم الحياة
يوسف الذي وكَّل نفسه وليًّا على والدته وأصبح مكان والدته في سنٍّ مبكرة وعمل في سن صغيرة، فأصبح رجل البيت وهو في سن الثامنة عشرة فقط، ويرى نفسه أجدر بالحب والاهتمام الذي تُوليه والدته لأخيه الأكبر، لأنه يهتم بشئون والدته ويناديها بـ «يمه»، على عكس أخيه الأكبر غير المسؤول الذي يقوم بعرض جسده للإعلانات، فمهما حاول كان رضا والدته وعودة ابتسامتها وفرحتها متصلًا بناصر أخيه الأكبر، ممَّا ولَّد شعورًا بالغيرة والحقد من أخيه.
حمد لم يظهر بشكل كافٍ في النوفيلا، فمثَّل صورة الشخص المهادن للأوضاع، الذي ليس له دور في العائلة، وكيف وجَّه اهتمامه إلى الألعاب الإلكترونية وتجاهل والدته ومحاولاتها الحثيثة للحفاظ على الأسرة، ولم يقل في النوفيلا سوى كلمة «يمه يوعان»، ولقد ظهر ليسدل ستار النهاية على النوفيلا.
خولة كانت مثقفةً ناجحة قوية ثابتة في عرض آرائها، لكنها فشلت في جمع أولادها.
«ورأت نفسها في الغد، واليوم الذي يليه، والذي يليه، والذي يليه أيضًا: حياة مديدة قاحلة، حيث البيت فارغ جدًّا، خولة تأكل وحيدة»، «البيوت أضحت فندقيةً إلى حد بعيد.»
تشعر بأسى خولة ووحدتها وتمنيها إعداد مائدة عامرة بما لذَّ وطاب لتتجمَّع مع أبنائها البعيدين عنها وجودًا القريبين مكانًا، والتقاط صورة تجمعهم للذكرى. أحضرت حوض السمك ووضعت به أسماكًا كي تسليها في وحدتها، فإذا بها تأكل بعضها، ويصبح الحوض فارغًا كفراغ منزلها، وكيف كان تشتُّتها وعرضها السؤال الأبدي، وهو متى ينتهي دور الشخص كامرأة ويبدأ كأم والعكس؟
«فالتعبير عن الألم، في سياقاتٍ بعينها، مرهون بوجود من يكترث.»
اقرأ أيضًا: «لا شيء أسود بالكامل» .. نظرة من نصف حلقة
رأينا كيف قامت الكاتبة بعرض مأدبة الغداء التي أعدَّتها خولة لأبنائها بكل حب وشوق أم، وحين فاتحتهم عن رغبتها في المشاركة ببرنامج حواري قاموا بإبداء الرفض القاطع دون مراعاة لمشاعرها وخوفهم من انتشار الفضيحة والعار بعد أن هدأ الوضع منذ سبعة أعوام، وكيف قام اهتم ناصر بكيفية تحوير جلسة البرنامج من أجل أن يتقبَّل الناس الحوار ويحصلوا على الشهرة، ورأينا كيف تطور الوضع للعراك بالأيدي بين يوسف وناصر وانفجار حزنهما دون مراعاة لحزن خولة.
نجحت الكاتبة في جعلي أتعاطف مع كل الشخصيات، وحدة خولة وأرائها وتشتُّت ناصر وغيرة يوسف ولامبالاة حمد.
«في تلك الأيام، آمنا كلنا بالرجل الأبيض، آمنا بأمريكا وسلَّمناها أطفالنا: خذوهم واجعلوهم بِيضًا بقدر الإمكان! بقدر الإمكان!»
أعجبني ذكر الكاتبة لزوج خولة، قتيبة، ومدى حبه للأشعار والأدب العربي واعتزازه باللغة العربية، وعدم تأثُّره بالثقافة الغربية ورفضه لدخول ناصر المدرسة الأمريكية خوفًا عليه من عدم إتقان اللغة العربية.
عرضت الكاتبة نقطةً مهمة جدًّا، وهي الانبهار بالثقافة الغربية وخصوصًا كل ما هو أمريكي، وكيف قامت خولة بإلقاء ابنها ناصر في أحضان أمريكا على أمل أن يعطيهم الولد المثقف الخلوق العالِم بثقافة البلد واللغة العربية، ولكن للأسف قامت بإعادة أجيال مشوهة لا تفقه شيئًا عن تاريخ البلد أو في اللغة، وعبَّرت عن هذا قائلة: «كثير من البلادة، والإحساس الزائف بالتفوق، والغباء المطبق أمام التاريخ.»
نهاية النوفيلا كانت رائعة، حيث قامت الكاتبة بإنهائها بمشهد السمكة الميتة في حوض السمك بالرغم من كونها السمكة التي جلبها حمد من فوره، ممَّا يضع الكثير من التساؤلات عن ماهية النهاية وهل هي مغلقة أم مفتوحة.
من الاقتباسات الرائعة:
«لكنهم يبالغون في شأن كل شيء هذه الأيام.»
«الشيخوخة في جوهرها إذلال وئيد.»
«أسوأ ما يمكن أن يحدث للأطلال ألَّا يبكي عليها أحد.»
«الجيل الذي يسمِّي النزق تفكيرًا نقديًّا، ويتباهى بجهله المركَّب مثل شهادةٍ من هارفارد.»
«خوارم المروءةِ من مُخلَّفات الماضي.»
«قفا في دار خولة فاسألاها»
قد يعجبك أيضاً
يتناول مقال محمد أسامة مراجعة رواية "لا شيء أسود بالكامل" المزيد
تقدم شيماء مصطفى في مراجعتها رواية «عمة آل مشرق» للكاتبة المزيد
يستعرض المقال رواية "السندباد الأعمى" لبثينة العيسى، حيث يحول الثالوث المزيد