في ظني، لم يكن غريبًا أن يرتكز «أبو فراس الحمداني» في نظمه لتلك الأبيات، بما فيه من بَثِّه لفيض همه وأساه، على لقطة يسيرة تتلخَّص في نَوح حمامة؛ ففي ذلك يُشير إلى علاقة الإنسان ببيئته، باعتباره — كما يظن — مركزًا تتهافت عليه مؤثِّراتها، ومن ثم يطبعها بما يلائم حالته النفسية — أو على الأقل ينتقي لقطةً مناسبة كما فعل الشاعر.
وممَّا نراه من إفضاء تلك العلاقة والانتقاء إلى اتخاذه مفتاح القصيدة «جارته الحمامة» متنفَّسًا، باعتباره ندًّا يماثله «هل تشعرين بحالي؟»، صانعًا معه مناظرةً على ثقله؛ ليكسر به واقعه المُرهَق كما يظن في قوله: «ما أنصف الدهر بيننا … تعالي أقاسمكِ الهموم»، يشكِّل أمامنا سؤالًا يشرح طبيعةً قد تكون محورية بحياتنا: من يتحكَّم بحياتنا وتجارِبنا؟ أهو نحن بصفة تامة، نمتص المعاني الكبرى «كالحياة، أو الموت، أو اليأس، أو السعادة والانتشاء» ونخلطها مع إطار بيئتنا بنمط متكامل لا يماثله أحد؟ أم تلك المعاني — والبيئة المحيطة على الأغلب — تقوم بمزاحمتنا في مساراتنا، فتكون تقاطعات عديدة بين بعضنا؟ حتى نظن أننا نعيش الحياة نفسها، إلا فقط بعض حركات تحاول — يائسةً — التفردَ.
بطريقة ما، تتحمَّل الكاتبة «عزة طويل» في روايتها «لا شيء أسود بالكامل» — الصادرة عن دار هاشيت أنطوان 2024— بعضًا من عبء الإجابة؛ وذلك بجعل البطلة تستدعي وَمَضات من ذكرياتها والحكايات العالقة في ذهنها، مُكوِّنةً منها شرفةً تحاول عبرها تفريغ تجرِبتها — التي رمَّزتها بأشكال عديدة كالبيت المهجور أو الجنين المجهَض — والنظر إليها بعين ناقدة، تسعى لأن تعرف أصل آلامها الأولى، وسر انصياعها للهرب منه — أو الرضا بحضوره في بعض الأوقات — دون التفات ومواجهة، متمنيةً بترك روحها، ممسكةً زمام الرحلة، أن تُنتج بالمحصلة اعتذارًا لروحها التي أثقلتها وشتَّتها الآلام الممزوجة بالطنين — من فرط تداخل التجارب — عن تحليقها واندماجها بما تألف صانعةً ملجأها الآمن وسط ظروف مستعرة.
«غريبين كنا عمَّا حولنا، سوى عن ذاك الشيء الغامض الذي جمعنا»
وأمام حاجتها المُلِحة للكلام، عن ذاتها، ووجود الحكايات المنثورة —والموضَّح ذلك في التنقُّل بين الراوي العليم (المستخدَم على الأغلب في وصف حال البطلة لشعورها بالغربة عنها)، والراوي المتكلِّم (المستخدَم في سردها لعلاقاتها مع بقية الشخصيات؛ خاصةً الأم «هدى» والزوج «شادي» وأمه «آمال»، واستجابة مشاعرها لهم بطرق متفاوتة) — استطاعت الكاتبة بالاستعانة بالجو العام المتقارب نوعًا ما — سواءً الحرب الأهلية اللبنانية أو الحرب السورية — التقاط نقطة مشتركة بين الحكايا تتواءم مع الجو النفسي للبطلة بصفتها وليدةَ ضرورةٍ يائسة كما تصف: اشتباكهم مع الموت بصفته معنًى معقدًا، وحيرتهم في استيعاب أشكاله المتوزِّعة في دنياهم — وضَح ذلك في تعجُّب البطلة من استخدام كلمة «تقبريني» للتدليل.
لا تفوت قراءة: «عمة آل مشرق» لأميمة الخميس .. سردية النبش الموجي
«اقشعر بدني؛ إذ تدفَّقت في المكان تردُّدات صوتها اللزج، وارتسم أمامي وجه أمي. كان ثمة شبه لافت بينهما، يتعدَّى السنوات الأربعين الضائعة، ويتفوَّق على كل تضاد هائل بينهما. كان قلباهما مُحمَّلَين بخيبة أكبر منهما. كان قلباهما مُتعبَين، وقلبي معهما».
وفق هذا الاقتباس، فضلًا عن انبعاث شعور الأُلفة بين البطلة وبين قبر جدها من جهة، أو استخلاص البطلة مشهدًا رومانسيًّا من صورة لقبر «جيم موريسون» بين المطر، فإن الشخصيات كلما تقدَّمنا بالحبكة، واتضح أكثر كِبَر المعنى واتساعه بين شكله الثابت «المتمثِّل في حدث موت أبي شادي» وصداه المتردد بين الشخصيات، المجسَّد على حال ابنة الراوية: فراغ لم يتمكَّن اتساع عينيها من احتضانه، تزداد ارتباطًا ببعضها، حتى بأنها تشبه — كما صوَّرت الكاتبة — نُوَّارةً زهرية تشترك في أصل واحد، ولها الحيز نفسه المتفرِّعة منه حيواتهم. يمكنها ذلك من تبادل وصف المعاناة — مثلما تقول: كمن يقف في مواجهة نفسه — ومحاولات الهرب من سطوة المعنى. ثم العجز واليأس الذي يتخلَّله أحيانًا مراوغات للتصبر. فنرى مثلًا مقاربة الراوية بين أبويها وبين أبوي صديقتها «رولي» في تحدي بشاعة الواقع وعبثيته. ومنه تُفهم العلاقة التي وضعتها بين الأب وبين صديقها «جهاد» بكون حزاميهما مرتفعين لمستوى البطن، إشارةً لأثر الضغط العصبي والخوف الدائم من القادم المثقِل لهما وكأن الحياة تنفلت إثر كل خطوة — والتي دلَّت عليه بمقاربة أخرى بين شحَّاطة أبيها (النعل) التي تُلطِّخها بموت الصراصير، ووصفها وفاة «جهاد» بالحمام بأنه أخرج الحياة من عَجُزه.
«هل تعتقدين أن نساء زمننا مثل نساء اليوم؟ أنتن تعلمتن المجاهرة، ونحن درَّبنا أصواتنا على ملازمة حناجرنا، روَّضناها كي تعلق هناك من دون أن تجهد في سبيل ذلك حتى.»
تتضح المقاربات أكثر حين تزن الراوية بين شخصيتي أمها «هدى» وأم زوجها «آمال»، وتلتمس وفقًا لحالتهما التي تراها — الجرأة في تحدي المجتمع في اختيار شركائهما، وللمفارقة الامتثال للأمر الواقع والتطبع به فيما بعد، كما فعلت «هدى» و«آمال» مع سطوة زوجيهما. والغربة التي تصنعها مشاعر اليأس في قناعات «آمال» بتغيير جذورها ومنبع ذكرياتها «من حمص إلى بيروت». وبالمثل «هدى» في قولها: بأنها تعيش نصف حياة — بأنهما قابلتان رغم اختلاف خطواتهما للامتزاج على خط واحد، يسهل بفضل مسحة الخيال التي وضعتها «عزة طويل» باعتبارها مساحةً لنقد ظروف الشخصيتين وموقفهما من المجتمع — فنجد تمسُّك آمال بأمل بوجود أبيها البيروتي أنه سيحل مشكلتها إن رآها، وعلى الناحية الأخرى تحكي هدى بَوحها مع الغيوم فيما قرأته، والتي تُهيئ لها عُزلتها من صنع مناقشة ساخرة، تناقش ما يظنه الناس في بني جنسها عن مرتكب الخطيئة الأولى «حواء» والمجبول على اللعنة — فضلا عن ارتباطه بأسطورة «شخصية الإمبراطور إيلاجبالوس ومعبوده» على تعميمه. بل واعتبار البطلة — بإدراكها التشابه مع أمها بمساحة الخيال والعزلة — بشكل ما جزءًا، تراقب لتتهيَّأ لتسحبها ما تصفه المسرحية الكبيرة والتي يتداخل فيها العنف والهدوء. وموازاةً لذلك تنغرس الإدراكات بمجموعها تلقائيًّا في وعي ابنتها — بتعبيرها بأنها تُرضعها المأساة — وكأنه هُويتها التي تستند عليها حافرةً فيها ما ستورثه، أو على أقصى تقدير بوصلة النجاة من المأساة — كما كان من رمز الحرام الأزرق للبطلة.
اقرأ أيضًا: المشي فلسفة: اختراق العالم بممارسة يومية
«ألم أخبركِ أن ليس للموت شكل واحد فقط؟»
على المنوال نفسه، تُرتِّب الكاتبة شخصيات «خالة الزوج»، وزوج البطلة «شادي»، و«أبي ليال»، لصنع حالة مُكمِّلة للقضية. تقوم على أساس وجود حل لشعور العجز من إحكام المعنى والعجز من الخروج عليه — كما أشارت الكاتبة بالفزع البادي في الصورة المتخيلة، أبيها، لدرجة رغبتها في الهروب من الصورة. تبدأ عند شخصية الخالة التي تلجأ لرؤية جثة «أبي شادي»، منغمسةً بكافة حواسها مع الموت وحضوره المهيب. وتنتقل مع شخصية «شادي» بقياس ما تشربه على ذاته، محاولًا بها — وسط تنقُّلات نوتات باخ الموسيقية — إطفاء حيرته المتسائلة «كيف يكون الموت؟ محطة نهاية؟ أم إنه رفيق يصحب المرء لنهايته؟ يؤنسه بأن يسحب منه حيوية كل خطوة أو فكرة أو حاسة، فلا يكترث بوجوده وقد طاف بأشكاله وذاق منها شعور الخواء.»
«ولسبعينيي لبنان بمعظمهم طقس آخر لمواجهة الموت؛ إذ يقصدون ضِيَعهم ويقضون أيامهم هناك في تماسٍّ مباشر مع الأرض يزرعونها، ويسقونها ويبتون حيوات صغيرةً من حولهم يتفرَّجون عليها كل يوم، ويمتلكون ثقةً بقدرتهم على إعادة الخلق، وكلما ازدادوا قدرةً على بث الحياة في النبات من حولهم تفاقمت دهشتهم بعجزهم عن بث الحياة في أجسادهم. لكن أباها ذهب أبعد من ذلك بكثير.»
ومنه تُسلمنا الكاتبة لنموذج آخر كشخصيتي «أبي ليال» وأبيها، وتُرينا صنعهما مواجهةً مع الموت والتفتيش فيه، بدايةً بتكوين محاكاة مصغرة —بالالتجاء للضيعة والزراعة فيها — يُقارن فيها الحياة التي نجحوا في غرسها، بحياتهم المنفلتة منهم. إلى التفتيش في حضوره ولحظة الثبات التي يخلفها — في شواهد القبور عند الشخصيتين، وخاصةً صوت تسجيل «ليال» لدى أبيها — باحثين عن منفذ يصلهم بأحبائهم. يرتكزون عليه كما ترتكز الزهرة على تربتها، ليستقوا منه سر وجودهم. ويتقاسمون دفئًا — كما كانت الحمامة الرمادية لأبي ليال، وكما كان شاهد قبر الجدة — يكسر ثبات المعنى، ويجعله حرًّا للتأويل، نازعًا ما تعلمناه أن هناك شيئًا أسود … بالكامل.
قد يعجبك أيضاً
تقدم شيماء مصطفى في مراجعتها رواية «عمة آل مشرق» للكاتبة المزيد
يستعرض المقال رواية "السندباد الأعمى" لبثينة العيسى، حيث يحول الثالوث المزيد