تمر المجتمعات حاليًا بما يُسمَّى «أزمة المجتمع الإنساني»، وهي أزمة يمكن رصدها بشكل كبير في التفاعل البشري بين أعضائه على صعيد المستويات الاجتماعية والعاطفية، فنحن أمام سيل كبير من الكتابات التي تركز على العاطفة بوصفها محركًا إنسانيًّا، بينما هناك كتابات أخرى تركز على لغة الجسد وأثرها في إنتاج سلوكيات يمكن رصدها.
يتجاوز توماس إريكسون في كتابه هذا تلك الكتابات، ويمنحنا تحليلات مهمة في ظل هذه الأزمة، مقدمًا عددًا من الكتابات المقترنة بالسلوك المحيط بنا، فيما تعرف بظاهرة «مُحاط»، وتشمل العديد من الكتابات أبرزها: محاط بالمرضى النفسيين والنرجسيين والرؤساء السيئين. وفي هذا المقال سنقدم مراجعة سريعة لأهم الأفكار الواردة في الكتاب.
عن الكتاب
نُشر كتاب «محاطٌ بالحمقى» للمرة الأولى في عام 2014، وصدر عن دار صفصافة للنشر بترجمة عمر فتحي عام 2021. يركِّز الكتاب على تفسير السلوك الإنساني وفق نظرية الأنماط، التي تركز على انتماء الشخصيات إلى أربعة ألوان كما يقول الكتاب: الأصفر والأحمر والأخضر والأزرق.
يعلِّمنا كتاب محاط بالحمقى ضرورة تحديد احتياجاتنا وفقًا لنظرية الأنماط، وأننا بحاجة إلى تفهم سلوكيات الآخرين حتى نستطيع تقبل ما يقومون به، وألَّا نختزل تصرفاتهم في مقولات جاهزة نحفظها مسبقًا ونستخدمها في جميع المواقف.

تندرج أهمية الكتاب في كونه مرشدًا لنا، خاصة في نقطة التروي والحكم على الآخرين، وأننا في حاجة ماسة إلى بعض الوقت من أجل فهم الأنماط البشرية، متخذًا من لغة الجسد وعلوم اجتماعية أخرى دليلًا على صدق تحليله.
يميل الكتاب إلى تفسير تلك الأنماط داخل البيئات الرأسمالية ومتخذي القرارات الكبرى، لهذا فتلك النوعية من الكتابات تتلاءم أكثر مع المجتمعات الصناعية، ورغم عدم استخدامه لمرجعية لغة الجسد مرجعية أساسية، إلا أنه يحتاجها في توقيت لاحق وهو شيء منطقي.
ينطلق إريكسون في تفسير الألوان أولًا ثم لغة الجسد ثانيًا، حيث يرى أن الأولى تابعة للثانية وليس العكس، وأن لغة الجسد ضرورية حتى وإن كنَّا نركز على نمط بعينه طيلة الكتاب، خاصة أن كل نمط يحتاج إلى مساحات خاصة يتحرك فيها من أجل اكتساب فرادته وتميزه.
ليس هناك مثالية
ينطلق إريكسون من سردية مفادها أن التجربة الشخصية التي مر بها، كانت مهمة من أجل اتخاذ نوعية الكتابة التي يقدمها، وتركز على تفسير السلوك وفق مجموعة من الضوابط والصفات، معطيًا إياها صيغة تنطلق من اللون الذي يناسب تلك الشخصية.
تكمن ميزة كتاب محاط بالحمقى في كونه لا يعطي صيغة نهائية لتفسير السلوك الإنساني، مثلما تفعل كتب التنمية البشرية التي تركز على نمط جسدي أو سلوكي، لكنه يفسر السلوك الإنساني بصيغ أشمل وتعاملات أوسع.
يتفاعل إريكسون مع الذات الإنسانية موضحًا تعقيداتها المباشرة أو غير المباشرة، وأننا بحاجة إلى قراءة شاملة منطلقًا من واقع الحياة اليومية التي نتأثر بها من خلال تفاعلاتنا مع أسرنا، التي تمثل البيئة الاجتماعية الأولى وتؤثر فينا سواء بالسلب أم الإيجاب، وعليه فإن تجاربنا لا بد أن تتفاعل مع الغير وفق أسس معينة، لا مجرد أطروحات مثالية تعلمناها من خلال تربيتنا.
أنا والآخرون
لا يجب أن نعزل أي عوامل من أجل تفسير سلوكياتنا، وهذا المميز في أهمية طرح إريكسون، فهو يقدم استراتيجية شاملة لا تقطع العوامل البيولوجية ولا الاجتماعية، فالظاهرة البشرية في أطروحته على مستوى شديد من التعقيد، وأن السلوكيات المندفعة التي نفعلها كل يوم هي وليدة عوامل وراثية نتعلمها في الطفولة، لكن يجب علينا التروي والهدوء وألَّا نسمح لهذه السلوكيات بالتحكم بنا.
إن التفسير العقلاني المقدم في أطروحة الكتاب قادم من تجربة ذاتية لإريكسون، لكنها في الوقت ذاته متفردة وضرورية في وقتنا الحالي، لأنها تفرق بين القيم التي نؤمن بها وبين تصرفاتنا التي هي وليدة تراكمات وتفاعلات متعددة المستويات، وينقصها فقط إدراك إريكسون أننا في لحظة من الزمن متسارعة وشديدة الاندفاع، وهذا يؤثر بالتأكيد على التجارب الشخصية للأفراد.
الألوان الطبيعية
يقسم إريكسون كما ذكرنا الأنماط البشرية إلى أربعة ألوان شديدة التمايز ومتباينة الصفات، ورغم أن بعضهم قد يرفض نظرية إريكسون، لكن بمجرد أن تبدأ القراءة ستجد الشخصيات المحيطة بك مرسومة بحذافيرها، بل قد يصل الأمر إلى أن تجد نفسك في أحد الألوان وهي ميزة الكتاب الأساسية.
يتميز كل لون بصفة جوهرية؛ فعلى سبيل المثال: الأحمر قيادي، الأزرق يميل إلى التنظيم، الأصفر مهتم بتجاوز الروتين، الأخضر يركز على الاتزان.
إن نموذج الشخصية الحمراء نجده بصفة أساسية في دوائر اتخاذ القرار أو مديرينا بشكل مباشر، مما يجعل سلطتهم قد تبدو لك في أوقات كثيرة غير مفهومة. لكن إريكسون يرى ضرورة فهم هذه الشخصية في سياق الحماس الشديد الموجود لديها، ورغبتها في إدارة الموقف بشكل صارم يجعلها تتفوق على الآخرين، ورغبتها في الفوز بالتحديات التي تخوضها كل يوم.
بينما الشخصية الصفراء تركز على المرح والتفاعلات، ويريدون أن يصبحوا مؤثرين في الحياة لا مجرد قادة، وهم أكثر شعبية واحتكاكًا بالناس. يريدون اتخاذ قرارات سريعة نعم، لكنهم في الوقت ذاته ميالون إلى العاطفة، وفي بيئة العمل نحن نحتاج إلى مثل تلك الشخصيات بجانب بقية الأنماط.
أمَّا صاحب اللون الأخضر فتميل شخصيته إلى الاعتدال والتوسط بين الألوان، والهدوء والتحكم في الصعوبات بأسلوب هادئ، لكنهم في الوقت ذاته قد يثيرون فيك الغيظ بسبب قلة فاعليتهم، لكنهم يجب أن يبقوا حولك لما يضيفونه من هدوء في التعامل مع المواقف المختلفة.
في نهاية تلك الأنماط تأتي الشخصية صاحبة اللون الأزرق، وهي متواجدة بكثرة في ظل الظروف الصعبة التي نعيشها، حيث تميل إلى التشاؤم ورغبتها في استكشاف المخاطر لأن نزعتها تحليلية، وهذا مهم للتعرف على التحديات والتعامل معها بدلًا من تجاهلها والاصطدام بها بعد فوات الأوان.
نظرة أخيرة
قد يرى بعضهم أن الكتاب يجلب لك الملل، لكنه يميل إلى شرح كل نمط باعتباره بنية مستقلة ثم يتوسع فيما بعد، ونحن بطبيعة الحال نحتاج إلى تلك الكتابات لسهولتها وأهميتها في ظل عالم متدفق بالمعلومات، وهو يعطينا هذا الأمر بجودة عالية.
على مدار صفحات الكتاب ستحصل على مزيج من التنمية البشرية وعلم النفس، وأهم ما يميِّز الكتاب هو أنه يتلاعب بنا طيلة صفحاته، ولا عجب في ذلك من كاتب متمكن من أدوات تحليله، وقادر على صياغة أفكاره بطريقة جيدة، حتى وإن اختلفت معه في بعض الجزئيات.
أخيرًا، في ظل عالم رأسمالي تقوم فيه الشركات على اختيار أفضل العناصر من أجل زيادة أموالها، يصبح الكتاب في حد ذاته ضرورة لها ولمستقبلها، فكل وقت قد يحتاج إلى نمط معين من الشخصية، فأنا مثلًا أرى أن الشركات في بدايتها قد تكون بحاجة إلى النمط الأحمر، بينما في رحلة صعودها تحتاج إلى الأصفر.
في السابق ركزت كتابات التنمية البشرية على لغة الجسد والأنماط العصبية، لكن اليوم تجاوزت الكتابات تلك الأطروحات القديمة، فأصبح شغلها الشاغل أن تتواءم مع طبيعة المجتمع الرأسمالي، وإن كان «محاط بالحمقى» يفيد تلك الصيغة فعلًا، إلا أنه في الوقت نفسه قد يجعلنا نسترشد به في داخل محيطنا الاجتماعي.
قد يعجبك أيضاً
مراجعة رواية "الشاعر والملك" لوليد سيف: تحليل أدبي لتجربة سردية المزيد