مقالات

بثينة العيسى.. كاتبةٌ مسكونة بالأسئلة

قارئة، وبائعة كتب، وطفلة مستعصية، ومشروع شجرة، وأم. وتصف نفسها بأنها: دودة كتب، وروائية أحيانًا، وكاتبة دائمًا .... تعرف على رحلة الكاتبة والروائية بثينة العيسى في هذا المقال.
بثينة العيسى.. كاتبةٌ مسكونة بالأسئلة

تُغرِّد خارج السرب، وتُسمِّي الأشياء بأسمائها، وتُطلِق العنان لمخيلتها لتكتشف آفاقًا جديدةً في الكتابة والحياة، وتُعبِّر عما يجول بخاطرها بعفويةٍ وبلغةٍ شاعريةٍ ساحرة. تُعرِّف نفسها بأنها: قارئة، وبائعة كتب، وطفلة مستعصية، ومشروع شجرة، وأم. وتصف نفسها بأنها: دودة كتب، وروائية أحيانًا، وكاتبة دائمًا. وتقول: «أنا منذورةٌ للكتابة، مصطفاةٌ من أجلها، وأكتب وكأن قلبي محمرة».

السيرة الذاتية

وُلِدَت «بثينة العيسى» في الثالث من سبتمبر 1982، وتخرَّجت في كلية إدارة الأعمال، وحصلت على درجة الماجستير فيها، وعملت في مجال إدارة الأعمال لمدة ثماني سنوات قبل التفرُّغ لمشروع «تكوين» الذي أسسته عام 2013، واقتصر حينها على ورش عمل كتابية ثم تحوَّل عام 2016 إلى مكتبة ودار نشر.

استطاعت خلال فترةٍ وجيزة أن تضع بصمتها في عالم الكتابة؛ فبدأت مسيرتها الأدبية بنشر روايتها الأولى: «ارتطام لم يُسمع له دوي» عام 2004، وفي العام التالي أصدرت روايتها «سُعار»، ثم توالت أعمالها الروائية بعد ذلك؛ فكتبت «عروس المطر» 2006، و«تحت أقدام الأمهات» 2009، و«عائشة تنزل إلى العالم السفلي» 2012، و«كبُرْت ونسيت أن أنسى» 2013، و«خرائط التيه» 2015، و«كل الأشياء» 2016، و«حارس سطح العالم» 2019، و«السندباد الأعمى» 2021.

وإلى جانب مؤلفاتها الروائية قدَّمت ألوانًا أخرى من الكتابة؛ فكانت لها محاولتان متميزتان في أدب الطفل هما «قيس وليلى والذئب» 2011، و«أسفل الشجرة أعلى التلة» 2016، فضلًا عن عددٍ من الكتب التي تناقش فيها مسألة الكتابة مثل: «بين صوتين: فنيَّات كتابة الحوار الروائي»، و«الحقيقة والكتابة»، إلى جانب كتابها «حاء» الذي يضم مجموعة ثرية من المقالات.

حصدت «بثينة العيسى» جائزة الدولة التشجيعية في الكويت مرتين؛ الأولى عام 2006 عن رواية «سعار»، والثانية عام 2014 عن رواية «كبُرْت ونسيت أن أنسى»، كما وصلت روايتها «كل الأشياء» إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للآداب عام 2020. وهي عضو في رابطة الأدباء الكويتيين.

التكوين الأدبي

دخلت «بثينة العيسى» عالم القراءة في سنٍّ مبكرة؛ فتفتحت عيناها على قصص سلسلة «ليدي بيرد»، ثم قرأت في أدب اليافعين، وفي سن السادسة عشرة أحضرت لها والدتها رواية «الجريمة والعقاب» لـ«دستويفسكي» فقضت في قراءتها شهرًا كاملًا.

بدأ شغفها بالكتابة وبعالم الكُتَّاب عندما قرأت كتابًا يتناول سيرة المؤلف «تشارلز ديكنز»، وكان أول كتاب تقرؤه عن حياة كاتب، وانتبهت منذ هذه اللحظة إلى وجود مهنة من هذا النوع، فقررت أن تُصبح كاتبة، وحلَمتْ بأن تُصبح كاتبة مغامرات؛ إذ كانت مفتونة بقصة «الفرسان الثلاثة»، وقصة «روبنسون كروزو» وغيرهما من قصص المغامرات.

كان للغزو العراقي للكويت أثرٌ كبير على دخول «بثينة العيسى» عالم الكتابة؛ فتقول: «كنت طفلة مرعوبة أحاول أن أرتب أفكاري وأُمنطق ما حدث، خصوصًا وأن كلمات جديدة أُضيفت فجأة إلى قاموسي مثل: غزو، ودبابة، وجندي، ورشاش، ونفط، ووطن، وعراق، وكويت، وأمريكا. كنت أشعر أني بحاجة إلى كتابة ما يحدث، أنا كتبت في البداية كطفلة خائفة، والكتابة كانت تعبيرًا عن الخوف. إن هويتي الكتابية تعود جذورها إلى لحظة الخوف». ومن وقتها بدأت تكتب كتابات بسيطة كأن تسرد أحداثًا يومية حتى أصبحت الكتابة ممارسة يومية.

شكَّل الإنترنت فضاءً رحبًا لـ«بثينة العيسى»؛ فمن خلاله تعرَّفت على «ميلانو كونديرا»، و«ماركيز»، و«ماريو فارغاس يوسا»، وغيرهم ممن تعتبرهم آباءها الذين شكَّلوا وجدانها الأدبي، وفيه أيضًا تبلورت هويتها الكتابية الأولى؛ فاشتركت في عددٍ من المنتديات الثقافية، وخاصة منتدى «جسد الثقافة»، الذي كانت تزوره يوميًّا، وتقرأ تعليقات القراء والنقاد على الكتابات المنشورة فيه، فكان أشبه بورشة عمل، مما ساعدها كثيرًا على النظر إلى النص بموضوعية، والإنصات إلى حاجته، والخروج من فخ الافتتان بما تكتب.

لا تفوت قراءة: تاريخ المكتبات العربية

الكتابة والأدب عند بثينة العيسى

تُولي «بثينة العيسى» الكتابة في ذاتها اهتمامًا خاصًّا، وتعتبرها الطريقة التي تؤكد بها وجودها في العالم، وتستأنس بممارسة الفعل ذاته، وكثيرًا ما تتطرق إليها في أعمالها؛ ففي رواية سعار تقول: «الكتابة حلٌّ معقول، إنها تجعلني أتواجد بشكل حقيقي، أشعر بي أنسلخ عني، أستحيل ريحًا، أتجرد من أهدابي وشفتيَّ وأنفي، أشعر بي أنا، أملك العالم كله بين قبضتي، أحاصره في تلك المسافة الضئيلة من الفراغ ما بين الطرف المدبب للقلم البنفسجي، والورق الموحش في بياضه». 

ولا تؤمن إلا بالكتابة المتمردة، فترى أن التمرد هو صميم العملية الإبداعية عمومًا، والكتابة خصوصًا، متسائلةً: «كيف يكتب المرء إذا كان متصالحًا مع العالم؟ كيف يكتب دون أن ينطلق من موقف احتجاجي؟ أنا أجيبك؛ سوف يكتب جثثًا من يقين». وترى أن كل مشتغلٍ بالأدب عمومًا غير راضٍ عن وضعٍ قائم، وأن الأدب في ذاته فعل استفزازي يتمترس حول مناطق المسكوت عنه وغير المقبول وغير العادل، إنه إحدى طرق المقاومة التي تملكها المجتمعات في قواها الناعمة لتغيير وضع قائم.

لهذا نرى «بثينة العيسى» تتناول في أعمالها قضايا شائكة مثل قضية البدون التي تناولتها في عملها الأول «ارتطام لم يُسمع له دوي»، وقضية المرأة التي شغلت مساحة كبيرة في أعمالها وخاصة رواية «كبُرْت ونسيت أن أنسى» التي تطرح فيها قضيتي المرأة والإبداع في نسيجٍ أدبيٍّ واحد وكأنهما ملتصقتان بعضهما ببعض، في ظل مجتمع ذكوري يُسفِّه من قيمة المرأة ويحط من قيمة الشعر؛ فالرواية تتحدث عن فاطمة التي تقع تحت سلطة أخيها ثم زوجها اللذيْن يُمثلان قيم المجتمع الذكوري السلطوية، ويبدآن في ممارسة هذه السلطة عليها وعلى الشعر الذي يُعد بطلًا رئيسًا في الرواية، وانحازت له الكاتبة منذ البداية من خلال تقديم السردية بلغة شعرية رائقة.

ويتميز الأسلوب الأدبي لـ«بثينة العيسى» بالتطور والنضج؛ فالمتتبع لأعمالها يجد تطورًا مذهلًا وسريعًا في أسلوب الكتابة وطرح الأفكار ومعالجتها؛ فتولي اهتمامها بالأمور العادية والبسيطة واليومية، وتتجاوز نفسها لتقترب أكثر من شخصيات العمل، وتدخل إلى مناطق جديدة، وتبتعد عن التقليدية، لتفسح المجال لتقنيات جديدة في الكتابة، وهو ما نلمسه في رواية «خرائط التيه» التي تنتقل فيها من اللغة التركيبية إلى لغةٍ تخدم المعنى والمضمون، وتكتشف فيها مناطق جديدة على مستوى الجغرافيا والذات، مثيرةً أسئلة كثيرة عن الوجود والإيمان والمعنى، وكذلك في رواية «حارس سطح العالم» التي صنعت فيها مكانًا متخيَّلًا، وانتصرت فيها الكتابة من أجل الكتابة والفن من أجل الفن.       

اقرأ أيضًا: الكتاب منقذًا

مشروع تكوين

بدأت «بثينة العيسى» مشروعها الأثير «تكوين» عام 2013، واقتصر في البداية على ورش عمل للكتابة؛ فقد نبتت فكرة إنشاء ورش عمل في ذهنها أثناء عملها في مجال إدارة الأعمال؛ عندما علمت بوجود مراكز في الغرب تقوم بتقييم كتابات الطلبة بأنواعها، والتعامل مع الكتابة على أنها ملكة قابلة للتجويد، على عكس الذهنية العربية التي تظن أن الكتابة قائمة على الموهبة والوحي فحسب، وتربط عملية الصنعة الأدبية بأمور ما ورائية وميتافيزيقية، ولذا قررت «بثينة» تقديم ورش عمل كتابية؛ فأثمرت فكرتها عن ورشة تكوين للكتابة عام 2013، وغامرت حينها بترك عملها، والتفرُّغ للكتابة وتعليمها، ولاقت في البداية هجومًا شديدًا من بعض الكتَّاب الذين وصفوا الورشة بأنها ضرب من ضروب المخادعة، لكن «العيسى» واصلت مشوارها، وحققت نجاحًا كبيرًا ومكنت كثيرًا من الكتاب من أدواتهم وشحذت ملكاتهم الكتابية.

وتناولت في أول ورشة لها موضوع الكتابة الوصفية؛ كيف نصف، وإلى أي حد؟ وكيف نصف دون أن نُقصِّر في إشباع حواس القارئ ومخيلته، وأن نعطيه فرصة أن يتخيل؟ وتؤكد «بثينة العيسى» على ضرورة توافر شروط معينة في مَن يُقدِّم ورشًا كتابية، على رأسها ألا يُعلِّم الآخرين أن يكتبوا مثله؛ ألا يُفرِّخ نسخًا مشوهة من أسلوبه الكتابي، بل عليه أن يضع أمام الكاتب الأدوات الكتابية ليوظفها هو متى يريد وكيفما يشاء.

وفي عام 2016 انطلقت مكتبة ودار نشر «تكوين» واستطاعت خلال فترة وجيزة أن تصبح جزءًا رئيسًا في عالم النشر وتستحوذ على نشر أعمال مهمة سواء مؤلَّفة بالعربية أم مترجمة، كما قامت بالعديد من الندوات والفعاليات الثقافية في عددٍ من الدول العربية.

وما زالت «بثينة العيسى» تُثري المشهد الثقافي والأدبي في الوطن العربي، وتُحقق نجاحًا وحضورًا وتأثيرًا في عددٍ كبير من القراء، وتحتل أعمالها قائمة الأكثر مبيعًا؛ فهي تتقن فن اللعب بالفلسفة على طاولة الحكي، وهذا ما يمنح أعمالها بُعدًا إنسانيًّا عميقًا لا يتوفر في كثير من الأعمال الأدبية.

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *