تمر صناعة النشر في العالم العربي بمنعطفٍ حاسم منذ ثلاث سنوات، بعد أن ضربتها جائحة كورونا ضربةً قاسية، ثم ثنَّت عليها الحرب الروسية الأوكرانية وأزمة سلاسل الإمداد بضربةٍ أقوى، فخرج الكثير من الناشرين العرب من الصناعة، ويحاول من بَقي أن ينتهج طرقًا جديدة للتكيف مع الأزمة.
لكن من زاويةٍ أخرى، تشهد الصناعة محاولات إحياء وإنعاش قوية من أطرافٍ عدة، أبرزها وأقواها تأثيرًا هي الجهات الحكومية المنوط بها رعاية الصناعة والناشرين. ومن أهم هذه الجهات جمعية الناشرين الإماراتيين التي تضاعف عدد أعضائها في السنوات الأخيرة في ازدهارٍ تشهده صناعة النشر الإماراتية عامةً.
الأستاذ عبد الله الكعبي، مر ما يقرب من نصف العام على توليكم مهام رئاسة جمعية الناشرين الإماراتيين بعد أقل من خمس سنواتٍ على ولوجكم إلى عالم صناعة النشر، وذاك إنجازٌ يستحق التقدير، ينمُّ حتمًا عن مؤهلاتٍ ونجاحاتٍ مكَّنتكم من ذلك. حدِّثنا عن ولوجكم إلى عالم صناعة النشر، ولماذا اخترتم نشر الكتب بالذات؟ وهل كان نجاحكم مرتبطًا بخلفيتكم الإدارية ودراستكم الأكاديمية لدراسات الإبداع والتغيير؟
ثمة عدة عوامل أسهمت في توجُّهي نحو عالم صناعة النشر، أولها إيماني بأن اللغة واللهجة تبني جسور التواصل بين الثقافات، إضافة إلى شغفي في البحث عن نقاط الإبداع في المشروعات التجارية. وبالاستفادة من دراستي الأكاديمية في مجال إدارة الإبداع والتغيير، أنشأتُ معهد الرمسة لتعليم اللهجة الإماراتية لغير الناطقين بها الذي فتح أمامي آفاقًا واسعة، حيث أصدرتُ العديد من الكتب في هذا المجال. كما عملت على ترجمة عدد من مؤلفات الأدب الكلاسيكي العالمي إلى اللهجة الإماراتية.
بالطبع، تنطوي عملية النشر على الكثير من التحديات، وقد وجدت الحل لمواجهة تلك التحديات في تفويض شركاء آخرين وتقسيم المهام بيننا، وهو أمر بالغ الأهمية لتحقيق النجاح، مع الوضع في الاعتبار أن تحقيق التوازن بين الحياة المهنية والشخصية عامل ضروري في تحقيق نجاح مستدام.
في سياق تجربتكم تلك، قلتم في بعض لقاءاتكم سابقًا إن النشر قد خالف توقعاتكم من حيث الربحية، إذ كان الربح الممكن أكثر من المتوقع، وأنه يجب العمل على تحقيق الاستدامة في صناعة النشر بجعلها صناعةً مربحةً لكل أطرافها.
لكن هذه الفكرة تكون أحيانًا غير متصوَّرة بسبب غياب الأرقام والبيانات في العالم العربي، فكيف يمكننا تصنيف أرباح دور النشر العربية في المجمل؟ هل مع الصناعات الكبرى التي يتجاوز صافي أرباحها العشرين في المئة أم أقل من ذلك؟
بشكل عام، تُعَدُّ دور النشر في العالم مؤسسات صناعية، باعتبارها تشتغل في مجال اقتصاديات الكتب، وتدخل في دورة الربح والخسارة؛ أي أنها تتحدث بلغة الأرقام. فصناعة الكتاب هي عملية تجارية كبرى تتطلب حضورًا مكثفًا لفاعلين في سلسلة الإنتاج فيما بعد الكتابة. كما تعتبر صناعة النشر وإنتاج الكتب من العمليات المعقدة من وجهة نظري لعدم وجود مقاييس واضحة لكميات الإنتاج وتأثيرها في العائد المحلي للدول، خاصة في الوطن العربي.
إذن، يرى الناظر في المجمل لعملية النشر أن إطارها متجاوز لأنها تؤثر على الكثير من المجالات الإبداعية الأخرى مثل عالم التصوير السينمائي والأفلام التي تعتبر نتاجًا للتأليف والنشر. كذلك من وجهة نظري فإن عملية النشر اليوم تتجاوز طباعة الكتب إلى أي محتوى ينشر بأي طريقة في منصات التواصل.
لكن، في الوقت نفسه، هي أيضًا مرتبطة بمدى توفير الكتاب معلومات قيِّمة تثري معارف الأجيال الصاعدة. ونعم، يمكن تصنيف دور النشر العربية في المجمل مع المؤسسات الصناعية الكبرى.
قد يؤدي السعي وراء الربح لدى بعض الناشرين إلى جورٍ في التسعير بما يضغط على ميزانيات القراء المهتمين؛ فكيف تتحقق المعادلة الصعبة التي يمكن فيها للناشر أن يحقق أرباحًا مرضية، وفي الوقت نفسه يحقق رسالته السامية بنشر المعرفة والعلم والأدب الراقي؟
يحتاج هذا الأمر إلى تكاتف الجهود بين جميع المعنيين بصناعة النشر، سواء من القطاع الحكومي أم القطاع الخاص. فعلى سبيل المثال، يمكن التخفيف من تكاليف النشر عبر أمور مثل:
- تخفيض الضرائب والرسوم الجمركية على مستلزمات إنتاج الكتاب وتسويقه.
- تخفيف أسعار الدعاية والإعلان بوسائل الإعلام الحكومية والخاصة.
- تخفيف تكاليف إيجار المعارض العربية التي تعتبر من أهم منافذ التوزيع للناشر العربي.
- توعية دور النشر بأهمية تقليص وتقليل تكاليف إنتاج الكتاب مثل الطباعة عند الطلب، وغيرها الكثير.
من شأن هذه الإجراءات التخفيف من تكلفة صناعة الكتاب، ما ينعكس أيضًا على تخفيض سعر مبيعه للقارئ. هذا طبعًا بالإضافة إلى ضمان حقوق الملكية الفكرية، والاهتمام بإنشاء المكتبات العامة التي تقدم الكتب بأسعار رمزية. فضلًا عن التوجه إلى التكنولوجيا، والكتاب الرقمي الذي يُعتبر أقل تكلفة من المطبوع.
تأخذنا هذه الفكرة عن الدور الحكومي إلى صناعة النشر في الإمارات، التي تشهد ازدهارًا متعاظمًا منذ خمسة عشر عامًا. إذ تقدِّر بعض الإحصاءات أن هناك عشرين ناشرًا جديدًا في الإمارات كل عام، وأن ما تقدمه الدولة مؤخرًا من تسهيلات للناشرين يستقطب الكثير من رؤوس الصناعة في العالم العربي. فكيف ترى من موقعك حالةَ النشر في الإمارات؟ وكيف تبلور ذلك في معرضي أبو ظبي والشارقة مؤخرًا؟
حقق قطاع النشر في الإمارات قفزات نوعية على مدار العقد الماضي بفضل اهتمام الدولة بهذا القطاع ورعايتها له، سواء عن طريق دعم الناشرين بشكل مباشر، أم من خلال نشر ثقافة القراءة بين أفراد المجتمع. أدى ذلك إلى ازدهار صناعة الكتاب الإماراتي على المستويات الإقليمية والدولية، حيث تجلّى هذا الازدهار في العدد الكبير من دور النشر المحلية التي انتشرت في ربوع الدولة، ففي الإمارات اليوم ما يقارب 300 دار تعمل في صناعة النشر، ومن خلال آليات الطباعة المتطورة التي تنافس مثيلاتها في أرقى دول العالم.
ومن أهم العوامل التي دعمت صناعة النشر في الإمارات أيضًا حرص الدولة على إقامة المعارض المتخصصة للكتب؛ مثل معرض الشارقة الدولي للكتاب الذي يعتبر أكبر معرض للكتاب في العالم على مستوى بيع وشراء حقوق النشر، ومعرض أبو ظبي الدولي للكتاب الذي يحتل مكانة مرموقة عالميًّا. تحوَّل هذان المعرضان بفضل الفعاليات الثرية التي يوفرانها للجمهور إلى وجهة ثقافية سنوية مهمة لعشاق القراءة، ومنصة تجمع الكتَّاب والشخصيات المؤثرة والناشرين والمبدعين وصناع المحتوى من جميع أنحاء العالم لتبادل الخبرات والتجارب والتعرف إلى أحدث الاتجاهات في صناعة النشر. ففي عام 2023 استقطب معرض الشارقة للكتاب 1043 دار نشر عربيَّة و990 دار نشر أجنبيَّة من 108 دولة حول العالم، في حين استقطب معرض أبو ظبي للكتاب أكثر من 1300 دار نشر من أكثر من 85 دولة. وهذا يدل على مدى النجاح والنمو اللذين يحققانهما، والدور الذي يلعبانه في تعزيز صناعة النشر عربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا.
وما توقعاتك لمستقبل النشر في الدولة؟
نحن متفائلون بمزيد من التطور والنمو المستدام لقطاع النشر في دولة الإمارات بفضل الدعم المتواصل الذي يلقاه من المؤسسات الثقافية، سواء الحكومية أم الخاصة. ومن المتوقع أن تشهد الصناعة مزيدًا من التوجه نحو توظيف أدوات التكنولوجيا، والتركيز على الاستدامة.
وأين موقع جمعية الناشرين من هذه التطورات؟ وما استراتيجية التطوير التي شكَّلتموها في الفترة السابقة؟
لقد ساهم إنشاء جمعية الناشرين الإماراتيين في تعزيز نمو قطاع النشر في الدولة، إذ تعمل الجمعية على دعم الناشرين من نواحٍ عدة؛ مثل التسويق والتوزيع عبر تمثيل الناشرين الإماراتيين في المعارض المحلية والإقليمية والدولية، إلى جانب وضع الإطار القانوني لتحسين شروط المهنية وحماية حقوق الناشرين، فضلًا عن الارتقاء بواقع صناعة النشر في الدولة من خلال سلسلة البرامج التدريبية والتأهيلية لرفع كفاءة العاملين في المجال من الناحيتين المهنية والتكنولوجية.
تضمنت استراتيجيتنا لتطوير صناعة النشر ودعم نموها أيضًا عقد شراكات مع جهات معنية بالقطاع المعرفي؛ مثل اتحاد كُتاب وأدباء الإمارات لزيادة فرص التواصل والتبادل المعرفي بين الناشرين والكتاب والأدباء، ودفع حركة التأليف والنشر قُدمًا في دولة الإمارات وازدهار الحركة الثقافية في الوطن العربي. كما أبرمت الجمعية مذكرة تفاهم مع جمعية الإمارات للمكتبات والمعلومات بهدف تعزيز التعاون بين الجانبين لدعم قطاعي النشر والمكتبات في الدولة، إلى جانب إطلاق مبادرة لتقديم منحة نشر للكتب المتخصصة في مجال المكتبات.
لنزِد التفصيل في بعض هذه الجوانب. مثلًا، كيف تحاول الجمعية دعم الناشرين الجدد والناشرين الصغار على خطو أولى خطواتهم في الصناعة؟ وما دور مدينة النشر في الشارقة في ذلك؟
تضع الجمعية خبراتها في خدمة الناشرين الجدد، ومساعدتهم في مشوارهم سواء فيما يتعلق بخطوات إنشاء دار نشر جديدة، وآليات الكتابة الناجحة والتسويق للكتاب، أم رفدهم في تطوير منهج العمل في النشر الخاص بهم، والتواصل عبر شبكة تضم الأفضل في هذا القطاع.
أما بالنسبة لمدينة الشارقة للنشر، فهي تكرِّس جهودها منذ تأسيسها لتعزيز صناعة الكتاب في المنطقة والعالم، وتقدم الكثير من التسهيلات لدعم الناشرين الراغبين في تأسيس أعمالهم في الدولة. وآخرها تمثَّل في إعلان تسهيلات مالية تصل إلى 3 ملايين درهم، حيث سيُعفَى الناشرون من 90% من رسوم التراخيص وتأسيس الأعمال، وذلك تنفيذًا لتوجيهات الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي رئيس مجلس إدارة هيئة الشارقة للكتاب.
تكرر الحديث مؤخرًا عن مشروعاتٍ لحل مشكلة جمع البيانات في صناعة النشر في العالم العربي، منها مشروع إماراتي بشراكةٍ مع مجموعة نيلسن العالمية بدأ منذ أربع سنواتٍ تقريبًا. حدثنا عنه رجاءً، وعن مخرجاته بعد هذه الفترة، وعن خطواته المستقبلية.
وقعت جمعية الناشرين الإماراتيين اتفاقية شراكة مع شركة Nielsen BookData بهدف إعداد قوائم رقمية بعناوين الكتب المطبوعة، لدفع عجلة نمو صناعة النشر في الدولة. وتهدف الدراسة لتعزيز دقة البيانات الببليوغرافية والالتزام بالمعايير الدولية في التصنيف؛ لضمان أعلى نسبة ممكنة من الوصول العالمي لتلك البيانات، وزيادة فرص المبيعات للناشرين الإماراتيين.
عبر التركيز على دولة الإمارات، تعود دراسة البيانات الوصفية بفوائد عدَّة على قطاع النشر، من أهمها: توفير رؤى قيِّمة للناشرين، وتمكينهم من مواءمة محتوى الكتب واستراتيجيات تسويقها مع احتياجات السوق المحلي، ما يؤدي إلى زيادة سهولة اكتشاف الكتاب الإماراتي والوصول إليه وتحسين مبيعاته، سواء على المستوى المحلي أم الدولي.
أما من حيث المخرجات، فقد تواصلت Nielsen BookData مع 160 ناشرًا حتى الآن، وحصلت على ملفات البيانات الببليوغرافية، أو البيانات الوصفية للكتب المطبوعة، من نحو 70 ناشرًا. كما عقدت 65 اجتماعًا مع ناشرين بارزين، ونجحت في زيادة عدد الكتب المفهرسة بتصنيف «ثيما» (التصنيف الموضوعي) إلى 12.000 عنوان.
وفي مجال الفهرسة والدعم التسويقي، ستنظم الجمعية وشركة Nielsen BookData بشكل مشترك سلسلة من ورش العمل لتعزيز معارف الناشرين الإماراتيين حول أفضل الممارسات الدولية في قطاع النشر.
في الختام، على مستواكم الشخصي، كيف كانت تجربتكم في إدارة الجمعية إلى جانب عملكم الخاص في معهد الرمسة ودار دراجون؟ هل استطعتم تحقيق التوازن؟
خلْق نوع من التوازن بين كثرة الانشغالات يعتبر واحدًا من أصعب التحديات التي يجب على الشخص الطموح أن يتعلم كيف يوزان بينها. فغير الجانب العملي توجد جوانب كثيرة تشكل حياتنا مثل العائلة والالتزامات المجتمعية وغيرها. عن نفسي أتعرض في بعض الأحيان للكثير من الضغوط ولكن أحاول جاهدًا أن أعطي الأولوية للمهمة التي يجب أن تنجز، كما أن تعلم تفويض الأعمال لمن حولك والاستفادة من فريق العمل بطريقة تضمن لك الانتهاء منها يعتبر واحدًا من أهم عوامل النجاح.
هذا غير البرامج والتطبيقات التي تسهل إدارة المهام وتجعل التركيز على الأولويات أكثر عملية.
قد يعجبك أيضاً
حاتم الشهري، مؤلف وناشر سعودي بارز، أسس أول وكالة أدبية المزيد
حوار مع الأستاذ محمد الفريح مدير النشر والترجمة في مؤسسة المزيد