ثالوث الحب والجنس والزواج؛
«ثالوث الذنب والشوق والعار»
ثلاثة هم مُحاصَرون بين أضلاع ثلاثة؛ الحب والجنس والزواج، استحالت إلى الذنب والشوق والعار، جرت المقادير عكس ما يبتغون: نواف المغدور من صاحبه، عامر العاشق المرغم على اختطاف زوجة صديقه من فراشهما، ونادية التي رأت في ترك الفراش استعادة العالم «لنظامه المنطقي … حيث الخطيئة خطيئة والحب حب.»
الثالوث الأول، الذي إن جرت المقادير بسلاسة، فسنجده مثل دائرة العشق حيث التوازن بين عناصره الثلاثة لتكتمل دورة الحياة، غير أن هذا الثالوث استحال إلى ثالوث ملغَّم بالذنب والشوق والعار، سرداب خانق أخذ بيد العاشقة إلى الموت والخائن إلى الهروب الأبدي والزوج المغدور إلى السجن الأزلي (سجن في وعاء الجسد).
في روايتها «السندباد الأعمى: أطلس البحر والحرب» الصادرة عن منشورات تكوين في 2021م، جعلت بثينة العيسى من المغدور مجرمًا، ومن المجرم هاربًا، ومن الهارب بحًّارًا (السندباد)، ومن الكون كله بحرًا.
في عالم «الوجود فيه متاهة»، التقينا بأكثر من سندباد. نواف السندباد الذي تضمَّخ في بدء الأحداث بدماء زوجه كي يُعلي كلمة «الرجولة» كان «بحَّارًا لقيطًا في زمن النفط، سندباد بلا سفينة ولا مرسى». وقرب نهاية الأحداث «بدا مثل سندباد عائد من مغامرة بحرية» ليبدأ لاحقًا «رحلة تلاشيه من العالم.» أما عامر الشارد فقد رأته أخته «سندبادًا يسبح نحو جزيرة سيكتشف لاحقًا أنها حوت».
يتماهى عنصر البحر مع رمزية السندباد ليعكس رحلةً داخلية وخارجية للشخصيات؛ ففيه بحث عامر عن ذاته وضاع كالطفل الضَّال، وفيه غرق نواف في خلده وحاول يائسًا فهم ما حدث.
ولأن الرواية تأسست ببحر لُجي، فقد تاه الثلاثة في أعماقه، فقدوا البوصلة التي كانت يمكن أن تحفظ حقَّهم من الضياع ومن الذنب والعار، فكان البحر هو الراعي الرسمي لأحداث الرواية وبناء شخصياتها وتحديد هُويَّات أماكنها، ابتداءً من العنوان الذي يُذكِّرنا أن في الرواية أكثر من سندباد وكلهم عُميان، حتى هدى التي لم تأتِ بوليدها بعدما جعلته الكاتبة سندبادًا، وإن أشارت إليه باعتباره «سمكة»، «في بطن هدى بحرًا، وفي البحر سمكةً تلبط ..»
في الرواية تتعاطف الطبيعة مع الشخصيات في تماهٍ بديع يجعل النجوم تكاد تسقط لمَّا أحسَّت نادية «بقلبها يهوي»، تُداعب الرواية الحواس جمعاء فشممنا «رائحة السجائر وخمَّ العرق والنفثالين» وسمعنا «متتاليةً صوتية تملأ الجسد بنشوة شبه جنسية» ولمسنا «هواء الفجر»».
«عندما أُتمُّ الأربعين من عمري
سوف أكتب رواية.»
ربما «الأربعين» يرتبط بالنضج الروحي، فإن روايةً ستُكتب في هذه العمر ستكون مثل رسالة نبوة حيث تكتمل التجربة الإنسانية وتتجلَّى حكمة صاحبها؛ فنادية تعتقد أن روايتها في الأربعين تتويج لتجاربها التي ستصل إلى ذروتها حينها، غير أنها لم تصل إلى الأربعين ووُئد حلمها بالرواية مبكرًا.
«فليحضر التاريخ» مريد البرغوثي
مطارَدة من «الذاكرة الجحيم»، توعَّدت مناير بعد ثلاثين عامًا من الحادثة مقاضاة الماضي — مثلما قاضى البرغوثي التاريخ في قصيدته الشهيرة — ومواجهة من وضعوها في قمقم خانق بدلًا من «مكان ملوَّث وآثم»، وطالبوها بدفع فاتورة العشاء الأخير لأمها. فصارت المرأة «المهجورة» التي تحمل إرثًا موصومًا بالعار وقد عاشت طوال حياتها طفلةً شفافة.
«فتحت الجدة الدولاب وأخرجت منه صندوقًا خشبيًّا، ومن الصندوق علَّاقة مفاتيح.»
السر يحتاج إلى صندوق، والصندوق إلى مفتاح، والمفتاح إلى يد أمينة، واليد الأمينة هي يد الجدة.
الجدة ليست مجرد عجوز، وإنما صندوق أسود يكمن فيه السرُّ كله، فبدت منذ اللحظة الأولى حاملةً خاتم الصندوق الذي تولَّت أمر حفظه من التكشُّف وتولَّت أمر تفريغ رأس حفيدتها من كل ما يخص أمها، غير أن هذه المهمة لم تنجح بعد أن نجت بعض الذكريات من مجزرة التطهير.
ورغم ما قامت به السيدتان (الجدة والعمة) من تطهير «الموصوم» وتيقَّنَّ من انتزاعه من ذاكرته، فإن المكان لم يتطهَّر من دَنَس الخطيئة، وظلَّ شبح الماضي يطارد الجميع: مناير الابنة التي استعادت من «الرف العلوي للدولاب ذلك الصندوق المليء بالوثائق»، ونواف الزوج المغدور الذي «يرى في «ابنته» وجه المرأة التي قتلها»، فكما كان الماضي يلاحق نواف بابنته، كانت أيضًا نادية (المقتولة) تطارده بكاميراتها المُصوَّبة نحو وجهه كي تخبره أنها ترى سوءاته.
ثلاثة أجيال إذن (ثالثهم مبتور) يتعاقبون في عائلة «مخبولة» من «الدَّفانين» رُصدت حيواتهم في تماهٍ مع القلاقل السياسية والاجتماعية والدينية التي انتهت بالبلاد إلى خلع «جلدها القديم «واستبداله» بترسانة أسمنتية تجثم على القلب». فجثمت كل الأحداث على قلوب أصحابها.
«هناك نحن وهناك هم.»
السنة والشيعة، العراق وإيران، العراق والكويت، ثيمات متكررة في الأدب الكويتي؛ «فئران أمي حصة» لسعود السنعوسي تصوِّر معارك طاحنةً بين أتباع المذهبين، السنة والشيعة، حتى مزَّقت روابط الصداقة الحميمية بين الأصدقاء؛ وفي «السندباد الأعمى» يُقرِّر المذهب أيَّ امرأة يمكن للرجل أن يتزوَّج، وهنا كانت العقدة التي خلَّفت كل الصراعات والذنوب والعار ومحاولات أصحابها التكفير عنها أو الخلاص من أطيافها.
كما تمكَّنت الكاتبة بحرفية كبيرة دسَّ القلاقل السياسية، التي تموج بها البلاد والتي ألقت بظلالها على العباد وعلى العائلة التي تعنينا حكايتها، ممتزجةً بالسرد كمن يعطي حقنةً في مؤخرة طفل في أوج دغدغته كي لا يشعر بوخز سنِّ الإبرة.
«القاهرة ليست بالمدينة الباردة التي
ترغب بأن تصطاف فيها.»
ولأن المدن تعكس أحيانًا الحالة النفسية للشخصيات، فإن القاهرة ليست بالمدينة التي توائم شخصية فاطمة — «المرأة الطيف» – التي تبحث عن بقعة هادئة تهرب فيها.
وفي مفارقة أخرى بين الكويت وبغداد، قالت مناير بعد زيارتها لبغداد بعد قرابة ثلاثين عامًا من الحادثة إن «بغداد بدت مثل الكويت في سنة 1992م، متعَبَة، رمادية.» هنا تجلَّت المفارقات التاريخية والسياسية التي جعلت من مدينة تشبه مدينةً أخرى كانت مثلها في الماضي؛ فالمدينتان هنا ليست مجرد أماكن، وإنما تناقضات تبعث على مفارقات الهُوية والتاريخ والصراعات السياسية التي اشتركتا فيها منذ عقود.
وكما أن هناك مفارقات بين المدن، فالمفارقات أيضًا بين شخصيات الرواية، غير أن الشخصيات النسائية كلهن يجمعهن سجن انفرادي بشكل أو بآخر، سجينات بين دفتين: المجتمع والقانون.
نادية الشخصية العالقة في رواية لا تخصُّها، حاولت الفكاك من كاتبها فسقطت في بئر الخيانة وقُتلت. مناير أسيرة إرث ثقيل وعالقة في جدتها وعالقة في ابن عمها، انتهى بها المطاف إلى حقيقة إصابتها بـ «كرب ما بعد الصدمة» وحتى الجنون. فاطمة «المرأة الطيف» المنفصلة جسديًّا عن مجريات الأمور، لكنها شديدة التواصل كشخصية روائية مع قارئها الذي حتمًا سيلهث كلما حلَّت بطلة في فقرة أو فقرتين.
اقرأ أيضًا: لقد تم حظرك وجدلية اختزال العالم
بين التناص والتضمين الأدبي
الكثير من الأدب
في «حارس سطح العالم» كان للتناص دور حيوي في بنية الرواية، فحضرت «1948» لجورج أورويل و«فهرنهايت451» لراي برادبري وغيرهما. وفي «السندباد الأعمى» كان للتضمين الأدبي حضور حيث تكرَّر ذكر يوسف السباعي وموباسان وتشيخوف على لسان عامر العاشق: «لا يمكن أن تكتبي القصة القصيرة دون أن تُعرِّجي على تشيخوف.» أما نادية فقالت إنها ستعيد «قراءة أعمال يوسف السباعي لأنها تريد أن تتعلَّم الفنيات.» ما يدفع القارئ لاستدعاء مخزون أدبي يرتبط بأولئك الكتَّاب.
بين «الميتاسرد» و«الاستباق» و«الزمن المضغوط» شُيِّدت «السندباد الأعمى»
أن تكتشف في الصفحات الأخيرة للرواية أن هذه لم تكن سوى مُسَوَّدة رواية كتبتها إحدى الشخصيات الروائية التي هي بين يديك، ليس جديدًا في كتابات بثينة العيسى؛ حيث تعتمد الكاتبة خاصية الميتاسرد Metafiction لتجاوز الحدود التقليدية للرواية والتلاعب في الخيط الفاصل بين الواقع والخيال. أن يدرك القارئ أن النص الروائي الذي بين يديه هو «خيال داخل خيال»، فهذا يثير التساؤلات حول دور الكاتب في خلق الأحداث، وقد يخلط القارئ بينه وبين الشخصية الروائية التي كتبت تلك المُسَوَّدة متسائلًا أيهما الأصل.
«بعد سنوات كثيرة، ستفكر مناير في ذلك الدمار على أنه شيء يخصُّها …»
يتجلَّى «الاستباق» Flashforward على طول الخط الزمني للرواية، فمثلًا عرفنا أن مناير سيتغيَّر وعيها بالدمار لاحقًا، وأن شخصيتها في طريقها للوصول إلى مرحلة ما من الوعي لاحقًا.
«بعد ثلاثين سنةً من الاحتلال، تفشَّت جائحة في العالم كله، وفُرض حظر التجول على البلاد للمرة الثانية.»
هنا، عمدت الكاتبة إلى استغلال «الزمن المضغوط» في تلخيص زمني للتركيز على لحظة راهنة، فكان لا بد من الانتقال العابر لثلاثين عامًا متجاوزةً التفاصيل التي جرت خلالها.
في النهاية يمكننا القول إن «السندباد الأعمى» رواية متخمة بالقسوات المتتالية، ولم يُخفِّف من حدَّتها إلا بعض العدنيَّات التي كانت تخرج بصوت مبحوح وموسيقى مشروخة من عود عامر.
قد يعجبك أيضاً
يتناول مقال محمد أسامة مراجعة رواية "لا شيء أسود بالكامل" المزيد
تقدم شيماء مصطفى في مراجعتها رواية «عمة آل مشرق» للكاتبة المزيد