في الآونة الأخيرة، تصاعدت وتيرة الكتابات المُركِّزة على العقل وكيفية تفسيره للظواهر الإنسانية من جهة، والمهتمة بالربط بين علمي الأعصاب والخلايا من جهة ثانية. ويُعدُّ كتاب “فن قراءة العقول” من تأليف “هينريك فيكسيوس” وترجمة “صامويل خيري”، والصادر عن صفصافة للنشر والتوزيع استمرارًا لتلك الكتابات المركزة على تحليل العلاقة بين الخلايا والسلوك الإنساني، إذ لا يمكن الفصل بين الجسد والعقل، بل إنَّ العلاقة بينهما هي علاقة تفاعلية ترابطية، فيؤثر كلٌّ منهما بالآخر تأثيرًا تفاعليًا دالًا، وهذا يصب في ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي “ديكارت” في الكوجيتو الخاص به الذي تأسست عليه الحداثة الأوروبية.
إنَّ للكتابة أهمية بالغة في ظل اللحظة الراهنة، المُتسمة بسيطرة الخوارزميات على عقولنا وهيمنة التدفق المعلوماتي على كياننا، لدرجة أنَّنا إذا ما أبدينا اهتمامنا بأمر ما، نجد أنفسنا أمام سيل عارم من الإعلانات والصفحات الترويجية، فالكتابة لا تنفصل عن هذه اللحظة المحورية، ولا يمكن أن تتجاهل تحليلها وبيان انعكاساتها.
تتجلى ميزة الكتاب الأساسية في كونه يعبر عن رؤية ذاتية خاصة أكثر مما يعبر عن رؤية علمية موضوعية، ففي ظل انتشار كمٍّ كبيرٍ من الكتابات المتمحورة حول تقديم اقتراحات علاجية للذات الإنسانية بعمومها، متناسية الطابع التنوعي للبشر، يأتي هذا الكتاب ليتناول حالات إنسانية وتجارب خاصَّة، تؤكد التنوع والتباين ضمن الجنس الإنساني.
في نقد ديكارت
ينطلق “هنريك” من رسالة مهمَّة، مفادها: “التفاعلات الجسدية لا تتم دون إرادة العقل”. وبالتالي، علينا إعادة قراءة مجمل التفاعلات بجدية، مبتعدين عن القراءة المنفصلة، وهذه أرضية مهمَّة لفهم تصرفات الآخرين تجاه ما نقوله.
هناك رسالة تتموضع على امتداد صفحات الكتاب، وتذهب هذه الرسالة إلى أنَّنا نقوم بقراءة العقل دون قصد، فالجسد لا يستطيع التفاعل مع مجريات الحياة دون قراءة أو تحليل، بيد أنَّنا نختلف حول الأداءات التي نقوم بها. ويرى (هنريك) أنَّ مقولات ديكارت التي تقرر فصل العقل عن الجسد أدت في نهاية الأمر إلى أخطاء، ومن ثمَّ علينا أن نعالج تلك الأخطاء.
يؤكد (هنريك) على عدم وجود مفهوم شامل لقراءة العقل، لكن المنطلق الأساسي لكتابه يتمحور حول أنَّ ما يحدث أمامنا ليس مجرد ظواهر منفصلة عن الجانب العقلي، ما يجعل الكتاب مهمًّا في الوقت الحاضر، ومحفزًا لابتعادنا عن التفسيرات المتمركزة حول المؤامرة للانطلاق نحو التفسير العقلاني لمجريات الظواهر.
لا تفوت قراءة: منارات الأدب في العالم العربي (قريبًا)
الجسد يتكلم
إنَّ الإيماءات وحركات الجسد التي تمكِّننا من التفاعل النموذجي داخل العلاقات التي ندخلها كلَّ يوم مرتبطة بعضها ببعض ، فالعاطفة لا يمكن شرحها بعيدًا عن الجسد، ويرفض هنريك مصطلح “لغة الجسد” للتعبير عن الإيماءات الجسدية، وذلك لأنَّها تعطي مقياسًا أحاديًا للإيماءات التي نقوم بها.
على صعيد آخر، يتناول هذا الفصل العلاقة بين التنفس والجسد، وهو أمر مفيد وجيد، لأنَّنا في أوقات كثيرة نغفل أثر التنفس في بناء علاقات سليمة مع ذواتنا قبل الآخرين، فالتنفس يجعلنا نتمهل، وهو ما يظهر في تمارين اليوجا التي ظهرت في أوقات كثيرة مع نجوم كثر مثل: محمد صلاح.
لا يعطينا “هنريك” تطبيقًا نمشي عليه فتتحسن أحوالنا، لكنه يدفعنا نحو تشاركية مبنية على فهم متبادل، فهو لا يقدم صورًا مفرغة تدور حول مصطلحات لغة الجسد، بل يمنحنا صورًا حيَّة للتفاعل الجسدي النموذجي، ولا سيما في بيئة العمل.
الحاسة السابعة
في فيلم الحاسة السابعة، يعاني الممثل أحمد الفيشاوي من أزمة نتيجة مواجهته بطل العالم في الكونغ فو (فومانشي)، فيلجأ إلى أحد العارفين ليسمع أفكار الآخرين عنه، هذا هو جوهر الكتاب، فلا تأتي أهمية انطباعات الآخرين عنَّا من كونها مجرد تفاعلات على مواقف بعينها، لكنَّها تُبنى على أساس فكري، نعيد من خلاله تأسيس رؤانا عن الحياة.
يركز الفصل على أهمية امتلاك حواس متناسبة مع المستويات المهنية التي نتفاعل معها، وذلك من أجل التكيف المؤدي إلى بناء علاقة جيدة، إذ تنطلق أهمية الحواس من قدرتها على استنطاق لغة تتناسب مع الشخصية، فهناك شخصية ذات انطباع بصري، إذ ترتكز على مفردات بصرية مثل: ( أنظر/ أتصور) أما الشخصيات ذات الانطباع السمعي، فتركز على الكلمات الصوتية، مثل: (أنصت/ أسمع).
صناعة المشاعر
لا يكتفي هذا الفصل بإبراز أهمية المشاعر في وقتنا الحالي، وإنما يقدم تحليلًا مبنيًا على فهم آليات الحواس المنعكسة على مشاعرنا، فتحليل المشاعر تحليلًا منهجيًا ليس ترفًا، فنحن نعيش في حالة من الهشاشة النفسية والسيولة المعلوماتية، ما يتطلب منَّا قراءة ما تقوم به الحواس، إذ لا يمكن عزلها في أثناء تحليل المشاعر.
اليوم، تركز الكتابات على المشاعر والحب، والرسالة المقدمة لنا دومًا: “أحبب جارك” كما أشار باومان في كتابه المهم “الحب السائل”، لذا يمكن الذهاب إلى أنَّ الحبَّ في المجتمعات الاستهلاكية لا يخضع لحالة مشاعرية، لكننا نجبر على تقديم طقوس معينة في أوقات بعينها حتى ننال حب الآخرين.
كما يفرق الكتاب بين المشاعر والمزاج، ويشير إلى أنَّ المشاعر لا تدوم طويلًا، وهذا ما قد يفسر حوادث قتل النساء في مختلف الثقافات، حيث إننا بمجرد امتلاك مشاعر نعتقد أنَّها دائمة، لكنها في حقيقة الأمر مؤقتة.
اختبار الكذب
إنّ كتابًا مثل كتاب (فن قراءة العقول) هو كتاب موجه أساسًا للقارئ الغربي، ذلك القارئ الذي تدور حياته حول العلاقات وإقامة تفاعلات مع محيطه، وهو أمر أصبحنا فيه الآن بفضل الثورة التكنولوجية وتبدل المفاهيم الحياتية، فلم تعد هناك خصوصيات ثقافية. وبالتالي، نريد أن نكون محبوبين وعلى صلة بالآخرين.
يركز الفصل السابع على الممارسات الكاذبة التي نقوم بها وضرورة كشف خداع الآخرين، حيث يؤكد (هنريك) أنَّ الكذب أمر مرفوض، لكننا نمارسه بقصد أو دون قصد، خاصة في ظل العلاقات التي نعيشها، حيث يكذب أحدهم على الآخر حتى ينال رضاه، وهذا النوع مرفوض.
ولا يقتصر أمر الكذب على الكلمات بل يتعداه إلى لغة الجسد، إذ تظهر لغة الجسد كذبنا وتناقضاتنا الداخلية، ويكشف لنا هذا الفصل عددًا من التفاعلات التي نقدم عليها من أجل تمرير الأكاذيب، مثل: حك الأنف وتغييرات في نبرة الصوت، والإقدام على تكرار الكلام حتى تتوه الحقائق.
إنَّ الخلاصة الأساسية المقدمة في هذا الفصل تتمثل بضرورة إيجاد شريك نتشارك معه أوجاعنا قبل أفراحنا، لكن دون نسيان تقدير مشاعر الآخرين وتحولاتهم المزاجية.
فضاء المغازلة
يتمحور هذا الفصل حول “التواصل الصامت اللا واعي”، وهو أمر ضروري من أجل بناء انجذاب سليم يؤدي إلى الاعتراف بوجود ذواتنا، فالحاجة إلى الاعتراف تجعلنا سعداء ومهتمين بما نقوم به، ولكي يحدث هذا لا بدَّ من التركيز على السلوكيات التي قد تبدو لنا غير مهمَّة لكنها ضرورية من أجل التواصل واكتساب الاهتمام.
كي نصبح مؤثرين
فالعصر الحالي يتسم بالثورة المعلوماتية التي قد تخترق عقلك، والمثال الذي يقدمه الكتاب مفيد، حيث إننا نطلق النواهي باستمرار لكننا لا ننتبه إلى أنَّها تسيطر على هواجسنا وتجعلنا نريد ممارسة ما يخفى عنا.
ينطلق هنريك من مصطلح مهم يدعى “المرساة”، وهي تعني إثارة مظهر أو نوع لبس معين في ذاكرتنا ما يجعلنا نربطها دون وعي بشيء آخر، فأغنية ما قد تمثل لنا شعورًا أو ذكرى، والأماكن أيضًا لها دور كبير في امتلاكنا مشاعر قد تجلب لنا التعاسة أو الفرح، فقط لأنها تذكرنا بموقف ما تعرضنا له.
يختتم هنريك كتابه بضرورة عيش فكرة (الترفيه) التي قد تجعلنا أكثر قدرة على التأثير في الآخرين، وهو يركز على التفاعل أكثر من إعطاء المعلومات، ما قد يمنحنا تجربة مهمَّة في التكيف مع المثيرات المختلفة التي نمرُّ بها، وأعتقد أنَّ هذا الفصل من أكثر الفصول تشويقًا للقارئ، نظرًا للخبرات التفاعلية التي يقدمها له.
إنَّ كتاب فن قراءة العقول تجربة دسمة لما يحتويه من تجارب وتفاعلات لا تكتفي بالكم المعرفي، بل تشير إلى تجارب متنوعة وثرية تضعنا أمام النفس البشرية. وبالتالي، يزيح عن النفس الكثير من المغالطات التي تقع فيها، ومفهوم قراءة العقل -وإن كان تجربة وليس علمًا- ضروري من أجل بناء علاقات أكثر منطقية.
قد يعجبك أيضاً
يتناول مقال محمد أسامة مراجعة رواية "لا شيء أسود بالكامل" المزيد
تقدم شيماء مصطفى في مراجعتها رواية «عمة آل مشرق» للكاتبة المزيد