مراجعات

مراجعة المأدبة لأفلاطون: فلسفة الحب

المأدبة .... رقصة الفلسفة والأدب، حين تغلبت شاعرية أفلاطون على الفيسلوف، وامتزجت الأراء والأفكار بالنكات والمداعبات، واختلط الجد بالهزل والرأي بالأضداد، أبحر بين صفحاتها معنا في هذا المقال.

عن المأدبة

قصةٌ قصيرةٌ أنشأها أفلاطون وبرعَ في تحبيرِها عن مأدبةٍ أثينيةٍ ملأتْها حواراتٌ عن الحبِّ وطبيعتِه وآثارِه، بعد أنْ ارتأى روادُها المدعوُّن إليها من قِبَل (أجاثون) الخوضَ فيه، لِما رأوا في ذلك الموضوعِ من مكانةٍ في نفوسِ البشرِ وتهالكٍ عليه وأثرٍ في حياتِهم، ولعلّ أفلاطون هو الذي شرعَ البابَ وأضاءَ السبيل لمن بعده للكتابةِ في ميادين الحب.

والقصةُ حافلةٌ بتفاصيلَ عن رسومِ اليونانِ في الولائم، ومنْ يخصّونه بالدعوةِ دون غيرِه، وعاداتِهم على مائدةِ الطعام، ويعظّمُها في قلوبِ القارئين لقاءُ الأفذاذ من أهلِ الفكرِ والنظر، فهمْ يرون فيها الأديبَ والشاعرَ جنبًا إلى السياسيّ والطبيبِ والفيلسوفِ والتلميذ.

المأدبة صنف فني وأدبيّ فريد

ولقد أصابَ ويليام هاملتون في مقدمةِ (المأدبة) حينما قال بأنّ شاعريةَ أفلاطون في هذه الدرّةِ الخالدةِ تغلّبتْ على الفيلسوف، وكانتْ أخفَّ أعمالِه فهمًا وأيسرَها مؤونةً على القارئ، وهي إلى ذلك قصةٌ اكتملتْ فيها أركانُ الرواية، فلمْ تكنْ خالصةً للآراءِ والأفكارِ والمعتقدات، بل تخللتها نكاتٌ ظريفةٌ ومداعباتٌ ساخرةٌ بين الحاضرينَ في ذلك المجلسِ الذي اختصّوه للحديثِ عن مذاهبِهم في الحب.

وقد يُحبَّب إلى القارئِ المثقفِ الكتبُ التي تمتزجُ فيها الفلسفةُ بالأدب، والجدُّ بالهزل، والرأيُ بضدِّه، والفكرةُ بأختِها، وحديثُ الطعامِ بأحاديثِ البحثِ والمباحثِة، فإنَّ ذلك أقربُ إلى عيشِه وأدنى من عقلِه، فهو لا يستغرقُ في الفكرِ وحدَه، بل يخوض في غمارِ الحياةِ عاملًا وفاعلًا.

بين صفحات المأدبة

وكان المألوفُ لدى المجتمعين على المأدبةِ أن يستهلَّ الحديثَ منْ يجلسُ على الميسرة، وهو الأديب (فيدرس) الذي أطلقَ لسانَه في تأليه الحبِّ وإكبارِ مآثرِه، وختمَ رأيَه بقولِه:

وإني [لا] أقول إنَّ الحبَّ أقدمُ وأعظمُ وأكرمُ الآلهةِ وحسب، بل إنه أقدرُها على معاونةِ الإنسانِ على اكتسابِ الفضيلة، والحصولِ على السعادةِ في هذه الدنيا وفي الآخرة

وأعقب كلامَه قولُ (بوزنياس) الذي قيّد الحبَّ المطلقَ:

فليس الحبُّ المطلقُ هو الخير، وهو الجديرُ بالثناءِ والتمجيد، وإنما الحبُّ الذي يجعلُ الناسَ يُحبُّون حبًّا صحيحًا صادقًا

وقد طالَ بيانُه واستطرد مستفيضًا:

ونخلصُ من هذا أنه مما يشرِّفُ المحبوبَ أنْ يخضعَ لمنْ يُحبُّه إذا كان هدفُه التفوقَ وتقفيفَ الذات، وتحليتَها بمكارمِ الأخلاق. ذلك هو الحبُّ السماوي الذي يرتبط بالربَّة السماويةِ ويُنسَب إليها، وهو الحبُّ الذي تُفيد منه الدولُ كما يفيدُ منه الأفراد، لأنّه يدفعُ المحبَّ ومحبوبَه إلى الكمال

وكان من رأي الطبيبِ (أريكسماخوس) أنَّ الحبَّ متغللٌ في كلِّ ما يتصل بالكونِ، وحقيقتُه اتحادُ المحبِّ والمحبوب كما تلتقي الأنغامُ المتنافرة فتخلقُ لحنًا خالدًا باجتماعها، ولخّص فكرتَه مختتمًا:

فها أنتم ترون أنّ الحبَّ ذو سلطانٍ شاملٍ متعددِ الجوانب، وهو الحبُّ الذي تسمو غاياتُه، ويكون تحقيقُه مصحوبًا بالوقارِ والفضيلةِ سواء كان ذلك في السماءِ أو على الأرض، فسلطانُه فوقَ كلِّ سلطان، وقوتُه فوقَ كلِّ قوة، هو منبعُ كلِّ سعادة، ومصدرُ كلِّ خير، وهو الذي ييسرُ لنا أن نحيا مع غيرِنا في ودٍّ وانسجام، ومع الآلهة كذلك

ولا يخفى ما في عبارته من دلالاتٍ على اقترانِ الحبِّ بالأخلاقِ والفضائل!

ثم تلاه مذهبُ الشاعرِ الكوميدي (أرستوفانز)، وقد اشتُهر ذلك المذهبُ في منْ بعده من الكتَبة، فهو الذي يرى شطرَ الإنسانِ الأولِ شطرين عقابًا من الآلهةِ حتى جاءَ زمانٌ يهفو فيه نصفٌ إلى نصفِه الذي انشطرَ عنه ويصبو إليه مشوقًا:

وعقب شطرِ الإنسانِ الأولِ شطرين أخذَ كلُّ شطرٍ يبحثُ عن شطرِه الآخر، فإذا التقى شطرُه بشطرِه اعتنقا بقوةِ لكأنما يريدانِ أن يعودا كائنًا واحدًا، وظلا متعانقينِ حتى يهلكا جوعًا وليس في وسعهما أن يفعلا غيرَ ذلك، ولا أن يفعلا شيئًا وهما منفصلان

وجاء كلامُه كلُّه على هذه الشاكلة حتى قال:

فالحبُّ وحده هو الذي يُحقّقُ لنا السعادةَ في هذه الحياةِ الدنيا، لأنّه يرشدُنا إلى من هو قريبٌ منا، مرتبطٌ بنا، وهو الحبُّ الذي يعيدُنا إلى حياتِنا الأولى فتندمِلُ جروحُنا وتتمُّ سعادتُنا إنْ نحن أرضينا آلهةَ السماءِ بسلوكِنا القويمِ وخلقِنا الرضي

واستقرَّ القولُ عند صاحبِ المأدبةِ الشاعرِ التراجيدي (أجاثون)، وقد أبانَ عن المبادئِ المرعيةِ قبل الغوصِ في حديثِ الحبِّ، وأوضحَ النهجَ الصحيحَ في المديح، وهو أنْ يعيّن طبيعةَ الممدوحِ ثم يُعرّجَ على آثارِه النافعة، فقال:

الحبَّ لهو أسعدُ الآلهة، وإن كانتُ جميعها سعيدة - إن جاز لي أنْ أقولَ هذا دون أن أثيرَ غيرةَ السماء - وهو أيضًا أجملُ الآلهةِ وخيرُ الآلهة، وهو أجملُها للاعتبارات التالية: هو أولًا يا فيدرس أصغرُ الآلهة، والحبُّ يُقيم الدليلَ على هذا بفرارِه من الشيخوخة، فمن شأنِ الحبِّ أنّه يُبغِضُ الشيخوخة، أو هو على الأقل لا يصحبُ الشيخوخةَ زمنًا طويلًا، وهو ينفقُ عمرَه كلَّه في صحبةِ الشباب

حتى هاج، وهو شاعر:

والحبُّ هو الذي يُزيلُ ما في النفوسِ من وحشة، ويُفعِم القلوبَ بالألفةِ والصداقة، وهو الذي جمعَ شملَنا، وهو الذي يهيمنُ على الأعيادِ وحفلاتِ الرقصِ وتقديمِ القرابين، هو الذي يجلبُ السرورَ ويزيحُ الهموم

وهنا يُسدَلُ الستارُ على آراءِ هؤلاء حتى يبدأ فصلٌ في الفكرِ والبيانِ يباينُ أفكارَهم، ويختلفُ عن أنظارِهم كلَّ الاختلاف، فترمق الأبصارُ إلى منشئه ويُرعونَ السمعَ إلى أقوالِه، ذلك هو (سقراط)، يخلبُ ألبابَهم بسحرِ كلماتِه ويستحوذُ على آذانهم بدقةِ تعبيرِه للأفكارِ وحسنِ غوصِه إلى المعاني، على ما عهدوا فيه من لطفِ التأتي إلى المرامي بالقياسِ المنطقي، حيث المقدماتُ تقودُ إلى النتائج، وذلك على لسانِ حكيمةٍ تُدعى (ديوتيما) حتى يخلصَ إلى قولِه:

الحكمةُ شيءٌ جميل، والحبُّ هو حبُّ الجميل، فالحبُّ إذن هو حبُّ الحكمة

ويمضي في كلامِه على هذا المنوال حتى فرغ قائلًا:

هذا يا فيدرس ويا أصدقائي ما حدثتني به ديوتيما، وما صرتُ أعتقد فيه، ولذلك فإني لا آلوا جهدًا في حثِّ غيري على أنْ يأخذَ نصيبَه من هذه النعمةِ التي لا يستطيعُ البشرُ الظفرَ بها بدون معونةِ الحبِّ، وإني أعلنُ أنَّ واجبَ كلِّ امرئٍ أنْ يكرمَ الحبَّ ويمجّدَه، وإني أمجدُه وأمارسُ أسرارَه على قدرِ جهدي، وأوصي بذلك غيري

وامتدّ ذلك السمرُ حتى أقبلَ عليهم السياسيُّ العسكريُّ (ألقبيادس) مترنحًا من السكرِ، فانهال كالصاعقةِ يمدحُ سقراط ويثني عليه ويعددُ صفاتِه ومآثرَه قبل أن ينفضَّ المجلسُ على جعجعةٍ يسمعونَها على أعتابِ الباب، فنامَ من القومِ من نام، وغادرَ منهم من غادر، وسهرَ منهم من لا تغفو عينُه ويطيبُ له الحديث!

ولا نغادرَ (المأدبة) قبل أن نعرّف بمترجِمها الأستاذ وليم الميري المولود سنة ١٩٢٤م، وهو صحفيٌّ ومترجمٌ من الأقباط، عاش صدرَ حياتِه في مصر، ضاقتْ به الأرضُ في زمنِ الثورة المصريّة، فأزمع الرحيلَ إلى أمريكا وقضى الشطرَ الثانيَ مهجريًّا، وتوفي عام ٢٠١٣م. 

وأشيرُ آخرًا أنَّ الترجمةَ لا تخلو من أخطاءَ لغويةٍ ومُعَاظلةٍ في الكلام، ولكنّه قليلٌ في كثيرٍ جيّد.

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *