اقترب الحلم من تحقيقه، فقد أنجز المؤلف كتابه، وبات هدفه قريبًا منه، يلوح له فيدنو منه. فما يفصله عن الشهرة خطوةٌ واحدة: أن ينشر كتابه ويطرحه في الأسواق، فيتعرف القراء عليه، ويصبح له جمهوره، يناقشونه ويحاورونه فيما جاء فيه؛ تُنظَّم له حفلات التوقيع، ويحضر الأدباء والنقاد لمناقشته وتقييم عمله، وربما ينال عليه جائزة أدبية قيمة يفتتح بها مشواره الأدبي، فكم من أديب رُشح لنيل البوكر مثلًا في أول عمل له، وما صالح الحمد عنَّا ببعيد.
ولكن كيف يمكن أن يفعل المؤلف الشاب هذا؟ وكيف يختار دار النشر التي سينشر معها كتابه الأول؟ وكيف يجب أن تتعامل دور النشر معه بصفته مؤلفًا ينشر لأول مرة؟
دور النشر في العالم العربي
للثقافة دور كبير في تدعيم الاقتصاديات الوطنية في الدول العربية، وصناعة النشر هي قلب الصناعات الثقافية؛ وسوقها كبير يتواجد دائمًا حتى في أوقات الأزمات، فطبقًا لتقرير الاتحاد الدولي للناشرين عن صناعة النشر في وقت أزمة كورونا، بلغ حجم السوق في الدول العربية ما يلي:
- الإمارات 281 مليون دولار وبعدد قراء بلغ 7.6 مليون قارئ.
- مصر 189 مليون دولار، وبعدد قراء بلغ 43 مليون قارئ.
- المغرب 100 مليون دولار، وبعدد قراء 17 مليون قارئ.
تتوزع اختصاصات الناشرين العرب بين دور النشر الأكاديمية والعلمية وأدب الأطفال، والروايات وغيرها. ومن الملاحظ أن عالم النشر يشهد ازدهارًا كبيرًا في عالمنا العربي ولا سيما في الإمارات والسعودية ومصر؛ ففي دولة الإمارات هناك زيادة ملحوظة في عدد دور النشر، التي بلغ عددها 60 ناشرًا فقط في عام 2014، ونتيجة النشاط الثقافي في الإمارات زاد عدد دور النشر إلى 306 ناشر. أما في المملكة العربية السعودية فقد استطاعت هيئة الأدب والنشر والترجمة أن تؤسس عصرًا جديدًا لصناعة النشر في المملكة؛ في ظل ما تطلقه من مبادرات، وما تتبناه من مشاريع. وفي مصر ظهرت العديد من دور النشر الشبابية التي أسسها مجموعة من الشباب القادر على استيعاب الألوان الأدبية الحديثة.
المؤلفون والناشرون.. شكاوى لا تنتهي
تضج مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات الشخصية بشكوى شباب المؤلفين عن الطريقة التي تتعامل بها دور النشر معهم، بعضهم يتهم دور النشر بالسرقة والاحتيال والنصب، وبعضهم يتهمهم بالإجحاف بحقوق المؤلف فما يُعرض عليهم من عقود يتحمل فيها المؤلف كل شيء دونما أن يتحمل الناشر شيئًا، فهو المسؤول الأول والأخير عن كل ما في الكتاب، وهو الذي يتحمل كل التبعات القانونية، بل إن بعض دور النشر تُحصِّل منهم الأرباح قبل طباعة الكتاب، ثم تطالبهم بكل شيء بعد ذلك، وإذا ما أعطته عددًا من النسخ من كتابه الذي ألفه، فإنها تكون نسخًا محدودة، وإن أراد المزيد فعليه أن يشتريها من الناشر. أضف إلى ذلك حقوق النشر ومدتها والحقوق الاشتقاقية كالترجمة والتحويل لأي عمل آخر؛ كل ذلك يحصل عليه الناشر مقابل لا شيء، فهو لم يدفع للمؤلف شيئًا بل سيتقاسم معه الأرباح أيضًا.
أما دور النشر فتشتكي من أن شباب المؤلفين يرسلون كتبًا لا تصلح للنشر، فبعضهم لا يعرفون مبادئ الكتابة، ويستهلكون من الناشر وقته ومجهوده دونما طائل، فهو ناشر يريد أن يحقق ربحًا من النشر، ويضيف إلى رصيده الثقافي.
فالناشر يعاني من ارتفاع تكاليف النشر، والورق الذي يمثل أكثر من 60% من مكونات الصناعة ارتفع سعره بشكل جنوني، ونشْر الكتب يكلف الناشر الكثير والكثير. أضف إلى ذلك ارتفاع تكلفة المشاركة في المعارض والنقل وغيرها من الخدمات. فلمَ لا يكون على الكاتب أن يكون جادًّا فيما يكتب، ويتحمل معه الأعباء الاقتصادية؟
تؤكد هذه الشكاوى أنَّ العلاقة بين الناشرين وشباب المؤلفين ليست على ما يرام، لا سيما مع دور النشر الكبرى، التي يتهمها الشباب بأنها لا تنشر إلا لكبار الأدباء. هذه العلاقة تحتاج إلى إعادة تقييم، وربما على المؤسسات الرسمية واتحاد الكتاب واتحاد الناشرين وضع مواثيق لبناء الثقة والتفاهم بين الطرفين تحمي حقوق الجميع وتساهم في ازدهار الصناعة.
الناشر سيد قراره
يحدد الناشر علاقته مع الكُتَّاب الذين ينشرون لأول مرة في ثلاثة محاور، وليس على المؤلف الجديد أن يختار منه محورًا بل يفرض الناشر عليه طريقته، فهو سيد قراره، وإن لم يرَها المؤلف مناسبة فلن ينشر مع هذا الناشر. يحكم النشرَ في عالمنا العربي نظمٌ أساسية لا يخرج عنها، وينحصر النشر بالنسبة للمؤلفين الشبان أو الذين ينشرون لأول مرة بصفة خاصة في الأنظمة التالية:
- نظام النشر المدفوع: يتكفل المؤلف بكافة تكاليف النشر، ويشارك الأرباح مع الناشر.
- نظام النشر الهجين: يتشارك الناشر والمؤلف معًا في تكاليف النشر ونسبة من الأرباح.
- نظام النشر التقليدي: غالبًا لا يتوفر للمؤلفين الشباب كثيرًا، وفيه يقوم الناشر بتحمل كامل مصاريف النشر مع المشاركة في نسبة من الأرباح.
لكل نظام من هؤلاء شروطه؛ فالأخير يجازف به الناشر حينما يكون متأكدًا بما لا يدع مجالًا للشك أنه سيحقق أرباحًا لا محالة، أو لكون نظام الدار لا يتبع سياسة النشر المدفوع، وفي المقابل تحرص دار النشر على جودة الأعمال التي تختارها بدقة.
أما الثاني فهو للشباب الذين ينشرون لأول مرة بشرط أن يكون لهم جمهورهم، سواء متابعون على وسائل التواصل الاجتماعي، أم انتشار في المحيط الأدبي والثقافي والعلمي. وأخيرًا حينما ينأى الناشر بنفسه عن المساهمة المادية في النشر فهو يتوقع ألا يحقق الكتاب المرجو منه، فيلقي بكل شيء على المؤلف، ويكتفي الناشر فقط بزيادة رصيده من الكتب.
تقييم الأعمال.. الناشر يحكم وينفذ
تستقبل دور النشر الأعمال المرسلة إليها بوسائلها المعلنة على موقعها الإلكتروني، والكثير منها يستقبلها على البريد الإلكتروني، وبعضها عبر منصات التواصل الاجتماعي، أو من خلال مسابقات تعلن عنها.
أول شيء تنظر إليه دار النشر هو الموضوع الذي يناقشه الكتاب، فإن كان الكتاب داخل دائرة اهتمامها ينتقل إلى المرحلة التالية وهي مرحلة العرض على لجنة القراءة، تلك هي مرحلة عنق الزجاجة للمؤلف.
وفيها يُعرض الكتاب على لجنة متخصصة في الجنس الأدبي المرسل، أو التخصص العلمي للكتاب. هذه اللجنة قد تكون معينة وتعمل داخل دار النشر، وقد تكون مجموعة من الخبراء الخارجيين تلجأ إليهم الدار من أجل تقييم الأعمال التي ترسل إليها.
وفي حال كانت التوصية بقبول العمل، ينتقل بعد ذلك إلى المرحلة التالية وهي تحديد القيمة السوقية للكاتب، وهو أمر يخضع لعدة اعتبارات ومنها قدرة المؤلف على التسويق لكتابه، عدد المتابعين للمؤلف على منصات التواصل الاجتماعي، وهو ما يعني إمكانية شراء الكتاب لدى عدد كبير من هؤلاء المتابعين. وهناك معيار آخر يسهم في تقييم العمل وهو عدد الصفحات، فكلما زادت عدد صفحات الكتاب زادت تكلفة طباعته، وهو ما يجعل الناشر يفكر كثيرًا قبل اختيار الأعمال الكبيرة.
إجمالًا عندما يرى مسؤول التعاقدات أن كتابك جدير بالتعاقد، فإن الناشر يرسل لك بريدًا إلكترونيًّا يعلمك فيه بقبول عملك للنشر، ويتواصل معك بالعقد الذي يتضمن شروط النشر وتفاصيل التعاقد. والمفترض أنَّه في حالة رفض النشر تُرسل الدار رسالة، مع توضيح أسباب الرفض، وبعض دور النشر ترسل للكاتب بعض النصائح لتحسين عمله، لكن قليلًا ما يحدث ذلك.
عقود النشر: صراع الناشر والمؤلف
تتضمن عقود النشر مجموعة متنوعة من التفاصيل، ولا بد من قراءة هذه الشروط جيدًا قبل التوقيع، والتأكد من رضاك التام عن التفاصيل، وإلَّا فعليك التفاوض مع دار النشر للوصول لأفضل اتفاق ممكن.
بالطبع يعتمد ذلك على هدفك الأساسي من عملية النشر، إذ تختلف طموحات كل مؤلف وأهدافه، إذ بعضهم لا يهتم سوى بنشر كتابه، فينشر صورة غلافه على صفحات التواصل الاجتماعي لديه، ويوزع بعض نسخه على أصدقائه والمقربين منه، ويعيش الحلم مرة واحدة وكفى. بينما يرمي آخرون إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يريد أن يكون نشر كتابه الأول البوابة التي يتعرف منها إلى القراء، بداية الشهرة وولوجه إلى عالم الأدب والكُتاب. أيًا يكن هدفك فتأكد من أنَّ شروط النشر هذه تتوافق مع الهدف الذي تسعى إليه.
مدة التعاقد
تكون في الغالب بين عام وخمسة أعوام، وكلما تقلصت المدة، أعطى هذا الحرية للمؤلف في أن ينشر كتابه مرة أخرى مع ناشر آخر، ولكنه يخسر بطبيعة الحال الجهود الحثيثة التي تبذلها دور النشر في حال كانت المدة أطول.
الاتفاق المالي
يتضمن الاتفاق المالي جزءين: التكلفة التي يتحملها المؤلف (في حالة اختار نظامًا للنشر يتضمن مشاركة التكلفة مع الناشر)، ونسبته من إجمالي أرباح الكتاب. هذه النقطة من أهم النقاط في عقود النشر، وعلى المؤلف المقارنة بين النسب جيدًا وتقييم مدى منطقية الاتفاق وفقًا لذلك. وكذلك يمكن أن يتضمن جزء الاتفاق المالي تسعير الكتاب المقترح.
الحقوق الإلكترونية
تتعاقد كل دور على الحق الورقي، وربما لا يكون النشر الإلكتروني ضمن اهتماماتها. وفي هذه الحالة، على المؤلف إذا ما طلبت دار النشر أن يكون معها الحق الإلكتروني أن يراجع منصاتها ليتعرف أولًا على نشاطها في التوزيع الإلكتروني، فإن لم يكن نشطًا يمكن أن يتفاوض على هذا الحق، وأن يقوم ببيعه لناشر إلكتروني نشط.
عدد النسخ المهداة
هي عدد النسخ المهداة من الناشر للكاتب، وهي تتراوح بين 10-50 نسخة وقد تصل مع بعض الناشرين إلى 100 نسخة.
التسويق
لا تتضمن العقود نصًّا صريحًا بشأن الدعاية والتسويق، وإن كان مفهومًا سلفًا أن هذا الأمر يقع على عاتق الناشر، إلا أن المؤلفين تقع عليهم مسؤولية الدعاية لأنفسهم إن أرادوا أن يصل كتابهم إلى القراء، فعليهم الدعاية للكتاب من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وكذا بالتواصل مع من يقدمون تقريرًا عن الكتاب أو مراجعات عنه سواء على اليوتيوب أم غيره.
الطبعة
ينص العقد على التزام الدار بطباعة ونشر عدد محدد من النسخ، ويتحدد ذلك في العقد. بعض الدور تختار طباعة 100 أو 200 نسخة، وقد يصل العدد إلى 1000 نسخة. اختيار عدد الكتب المطبوعة له أبعاد متعلقة بالتكلفة والتسويق وخلافه.
وعلى المؤلف الذي اختار نظام النشر الهجين أو المدفوع المقارنة بين عدد النسخ وتكلفة الطباعة، فقد تأخذ منك الدار مبلغًا كبيرًا ثم في النهاية تطبع 100 نسخة فقط من الكتاب.
خريطة التوزيع
من المفترض أنَّ لكل دار نشر خريطة توزيع خاصة بكتبها، تتضمن الأماكن التي سيصل إليها كتابك، سواء المعارض التي تشارك بها الدار، أم الدول والمحافظات والمدن التي سيوزَّع فيها الكتاب. راجع هذا الجزء في العقد، وتأكد أنَّك تعرف خريطة التوزيع للدار، وأنَّها ستساعدك على انتشار كتابك بالقدر المطلوب.
ختامًا، وبعد قراءة التفاصيل والتفاوض حدد موقفك من الاتفاق، فأنت لست ملزمًا بأخذ قرار النشر مع دار ما لمجرد موافقتها على نشر كتابك، بل عليك الشعور بالطمأنينة والرضا عن القرار. وفي جميع الأحوال هذه تجربتك الأولى، فلا تحزن من أي تجارب سلبية قد تمر بها، واستمتع بالتجربة والدخول إلى عالم النشر، وتعلَّم أكبر قدر من الدروس المستفادة، فهذا سيفيدك في رحلتك المستقبلية.
قد يعجبك أيضاً
المحرر هو الجندي المجهول في الكتابة، يصقل النص ويضمن جودته المزيد