قام العرب والمسلمون بدورٍ بارزٍ في مسيرة التقدم الإنساني، وكانوا في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، وخاصة في القرنين الثالث والرابع الهجريين، أصحاب الريادة في مجال العلوم عامة وعلوم الفلك خاصة؛ فقد عمل العلماء المسلمون على سبرِ أغوار الكون، وقدَّموا أبحاثًا علمية غاية في الدقة والإتقان، مثَّلت حجر الأساس للحضارة الغربية الحديثة.
ولذا ليس غريبًا أن يُواصل أحفاد هذه الحضارة العظيمة مسيرة أجدادهم في خدمة العروبة والإسلام والإنسانية جمعاء؛ فجاءت الانطلاقة في العصر الحديث من شبه الجزيرة العربية على يد أميرٍ مثابرٍ من أبناء المملكة العربية السعودية، هو الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، أول رائد فضاء عربي في التاريخ.
وُلِد الأمير سلطان عام 1956 في مدينة الرياض، وبدأ شغفه بالطيران في سنٍّ مبكرة؛ فكان مولعًا بمنظر طلاب الكلية العسكرية أثناء تجوالهم في شوارع العاصمة ممتلئين بالفخر والاعتزاز، وتمنَّى أن يُصبح طيًّارًا عسكريًّا، لكن إصابته بالتهاب المفاصل حالت دون ذلك، وظلَّ حُلمه يُراوده، حتى واتته الفرصة أثناء إقامته في الولايات المتحدة للدراسة عام 1974، فتعلَّم الطيران المدني، وحصل على أول رخصة طيَّار خاص عام 1977 من إدارة الطيران الأمريكية (FAA).
كما واتته فرصة مشاهدة انطلاق أول مكوك فضائي على ظهر طائرة بوينج 747 عام 1981، ولم يدر بخَلده حينها أنه بعد أربع سنوات وبالتحديد في 17 يونيو 1985 سيكون على متن مكوكٍ كهذا ينطلق به نحو الفضاء فاتحًا بذلك عالم الفضاء أمام العرب والمسلمين.

جاء كتاب «7 أيام في الفضاء: قصة أول ريادة عربية للفضاء» الصادر عن مؤسسة التراث الخيرية للأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود في عام 2019؛ ليوثِّق هذه الرحلة العظيمة بمناسبة مرور ثلاثين عامًا عليها. وقد ساهم في كتابة النص وإعداد وتطوير الكتابة والمادة العلمية كل من: د. أحمد نبيل أبو خطوة، ود. طارق علي فدعق، وعبد الرحمن بن شلهوب.
عرب سات والطريق إلى الفضاء
يستهل الأمير سلطان الكتاب بالحديث عن مؤسسة عرب سات؛ فيعود بذاكرته إلى مؤتمر وزراء الإعلام العرب الأول عام 1967 بمدينة بنزرت التونسية، والتوصية بضرورة استخدام الوسائل التقنية الحديثة في عملية الانتشار الإعلامي وتوسيعها بين الدول العربية باستخدام الأقمار الصناعية، وإصدار اتفاقية عام 1976 التي أُنشئت بمقتضاها المؤسسة العربية للاتصالات الفضائية عرب سات، واختيار الدكتور علي المشاط رئيسًا لها عام 1978، ومباشَرة المؤسسة عملها في الرياض منذ مطلع 1979.
وكذلك تعاقد عرب سات مع الشركة الفرنسية للفضاء إيروسبيسيال (Aerospatiale) لتصميم الجيل الأول لأقمارها وتصنيعها عام 1980، والبدء في بناء محطة أرضية لإدارة أقمارها والتحكم فيها، ثم التعاقد عام 1981 مع شركة أريان الأوروبية (ARIANE) لحمل القمر الصناعي وإطلاقه في الفضاء، ليشهد يوم 8 فبراير 1985 انطلاق أول قمر صناعي عربي في الفضاء.
كما يسرد الأمير بالتفصيل ظروف إطلاق القمر الثاني؛ حيث تعاقدت عرب سات مع وكالة ناسا الأمريكية عام 1982، وفي أكتوبر 1984 فكَّر الدكتور علي المشاط رئيس عرب سات في أن يُصاحِب الرحلة الفضائية أخصائي حمولة عربي، وبعد التواصل مع الدول العربية كافة، تم الاتفاق على أن يكون أخصائي الحمولة من المملكة العربية السعودية، فرُشِّحت عدة أسماء من الطيران المدني والعسكري كان من بينهم الأمير، ثم خضع جميع المرشحين للفحص الطبي، واختير ثلاثة منهم فقط، يُرسَلون إلى الولايات المتحدة لتختار ناسا منهم اثنين؛ أحدهما أساسي والآخر احتياطي.
ويحكي الأمير أسباب اختياره مع الرائدين عبد الرحمن البلوي وعبد المحسن البسام، وسفرهم إلى الولايات المتحدة؛ لإجراء الفحوصات الطبية والاختبارات التي اجتازوها بمهارة، ثم وقوع الاختيار على الأمير سلطان أساسي والرائد البسام احتياطي.
تجارب علمية سعودية في الفضاء
انتهز العلماء السعوديون فرصة وجود رائد فضاء عربي في الرحلة؛ لإجراء تجارب علمية سعودية في الفضاء. وبعد موافقة ناسا على ذلك، شُكِّل فريق علمي من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن برئاسة الدكتور عبد الله الدباغ للسفر إلى الولايات المتحدة، والبدء في المباحثات حول التجارب التي ستُجرى في الفضاء.
يوثق الأمير سلطان ظروف اختيار أعضاء الفريق العلمي وأسمائهم ودرجاتهم العلمية ومناصبهم، ويورد أيضًا شرحًا مفصَّلًا للتجارب التي اتُفِقَ على إجرائها، وعددها خمس تجارب هي: تجربة فصل السوائل؛ تجربة الغاز المؤين؛ التصوير الفضائي؛ رؤية هلال شوال؛ المشاركة في تجربة طبية فرنسية.
ويؤكد الأمير على أهمية هذه التجارب التي تُعد بمثابة جواز سفر إلى عالم الفضاء، ونافذة جديدة للأكاديميين السعوديين للاطلاع على أحدث تقنيات العصر. ويُشير أيضًا إلى التجارب الأخرى التي أُجريت أثناء الرحلة ومنها تجربة ألمانية على السوائل في حالة انعدام الوزن، وتجربة إنتاج مواد ممغنطة بصفات أفضل، وقياس الأشعة فوق البنفسجية الكونية، فضلًا عن تجارب مدرسية للطلاب الأمريكيين.
لا تفوت: كيف تجعل القراءة نمط حياة روتيني؟
تدريب أول رائد فضاء عربي
على الرغم من قِصَر مدة التدريب الذي بدأ في أول شهر أبريل، إلا أن الأمير وزميله استطاعا اجتياز جميع التدريبات المطلوبة بنجاح باهرٍ أشاد به جميع العاملين في ناسا. ويُسلط الأمير الضوء على هذه التدريبات كافة، والأماكن التي تم فيها التدريب، والمدربون الذين تولوا تدريبهم.
ومن أبرز ما جاء في البرنامج التدريبي؛ العناية الطبية والرياضية عن طريق المداومة على الفحوصات، وتدريبات مختلفة داخل محاكي المركبة الفضائية (Orbiter Simulator)، وتدريبات في مركز المراقبة الذي يراقب سير الرحلة من الأرض، ومعلومات نظرية مكثفة عن الفضاء والسفر إليه، وحالة انعدام الجاذبية، والتدريب على المعيشة داخل المركبة الفضائية، وتدريبات السلامة في حالة حدوث حريق في المركبة وكيفية الخروج منها في حالات الطوارئ عند الإقلاع أو الهبوط. فضلًا عن التدريب على إجراء التجارب العلمية التي ستُجرى في الفضاء.
ويستعرض الأمير طاقم المكوك الفضائي، المكوَّن من: قائد الرحلة، وأخصائي المهمة ويتراوح عددهم في كل رحلة بين واحد وثلاثة، وأخصائي الحمولة وعددهم واحد أو اثنان. ويستعيد أيضًا بعض الذكريات الجميلة عن أيام التدريب، ولعل من أجملها تمر المدينة الذي لاقى إعجاب جميع العاملين في ناسا، حتى أنهم توافدوا باستمرار على غرفة رائد الفضاء العربي ليتناولوا منه، وغيرها من الذكريات التي يستعيدها الأمير بحنين بالغ.
الرحلة
ها قد جاء اليوم الذي انتظره العرب طويلًا ليسطروا به صفحة مشرِّفة في تاريخهم الحديث، يوم الانطلاق إلى الفضاء، كان ذلك فجر يوم الاثنين 17 يونيو 1985م/ 29 رمضان 1405هـ، ويسرد لنا الأمير سلطان تفاصيل ذلك اليوم بدقة، وشعوره طوال الرحلة بدءًا من صعوده برفقة زملائه الحافلة التي ستقلهم إلى مركز الانطلاق، مرورًا بدخولهم المكوك ديسكفري الذي سينطلقون فيه نحو الفضاء، والاستعداد للانطلاق، ثم انطلاق المكوك وما صاحبه من بخار ماء كثيف لتقليل حدة الطاقة المستخدَمة في الانطلاق، وبرنامج الأيام السبعة التي قضوها في الفضاء، وطريقة تنفيذه، والتقاط صورٍ لكوكب الأرض والمملكة العربية السعودية، ومكالمة الملك فهد له.
ويروي الأمير الصعوبات التي واجهها في الأيام السبعة وطريقة تغلُّبه عليها، وخاصة انعدام الجاذبية والجفاف، ويُرفق في الكتاب مذكراته التي كتبها في تلك الأيام، وجزءًا من كتاب زميله الفرنسي باتريك بودري الذي كتبه فور عودته وعنوانه «اليوم أشرقت الشمس 16 مرة».
كما يستعرض المقتنيات التي حملها معه أثناء الرحلة، ومنها مصحف شريف صغير الحجم، وسبحة شخصية من الملك فهد، وأخرى من والده الأمير سلمان، ومجموعة من الاسطرلاب العربي، وعَلَم المملكة، وغيرها من المقتنيات التذكارية التي تمثِّل قيمة معنوية كبيرة.
ويسلط الأمير الضوء على الإنجازات التي حُقِّقت على متن المكوك ديسكفري، ومن أبرزها: انطلاق القمر الصناعي العربي الثاني، والقمر الصناعي المكسيكي، وإجراء التجارب المقرر لها مسبقًا، ونشر قمر صناعي صغير مزود بتلسكوب يرصد الأجسام التي تنبعث منها أشعة إكس، وغير ذلك من الإنجازات المهمة التي يستعرضها الأمير باستفاضة.
بعد إتمام المهمة خلال الأيام السبعة بنجاحٍ باهر، حان موعد العودة إلى كوكب الأرض؛ فيطلعنا الأمير على الاستقبال الحافل الذي لاقوه لحظة وصولهم وخروجهم من المكوك، والشخصيات الغربية والسعودية البارزة التي كانت في استقبالهم، فضلًا عن كاميرات الصحافة والإعلام التي صُوِّبت نحوهم لتوثيق هذه اللحظة التاريخية.
ويستعيد الأمير بعض المشاهد التي لا ينساها أثناء عودة الديسكفري، وهي: منظر كوكب الأرض من الفضاء بجماله وروعته، ومنظر الحرائق والأدخنة المتصاعدة في بعض أجزاء القارة الأفريقية، وكتلة اللهيب التي شاهدوها من النافذة تحيط بجسم المركبة نتيجة احتكاكها بالغلاف الجوي الأرضي عند بدء دخولهم جو الأرض، ومشهد بدء ظهور الأشياء الصغيرة التي فقدوها أثناء الرحلة كالأقلام والأكواب، تسقط فوق رؤوسهم من سقف المركبة عندما دخلوا نطاق الجاذبية الأرضية، وهو ما أضحكه كثيرًا.
وبعد مرور أسبوعين على العودة إلى كوكب الأرض، عاد الأمير إلى أرض الوطن، واستُقبل استقبال الظافرين، واجدًا في انتظاره أمه وكوكبة من رجال المملكة.
أصداء الرحلة
تداولت الصحف العربية والأجنبية خبر الرحلة بحفاوة بالغة، وسلَّطت الضوء على رائد الفضاء العربي الذي حظي بإشادة كبيرة؛ فقد وصفت صحيفة شيكاغو تربيون هبوط الديسكفري بالمثالي، ونشرت صحيفة هيرالد تريبيون الدولية على صفحتها الأولى صورة لرواد الفضاء السبعة أثناء مؤتمرهم الصحفي من داخل المكوك ديسكفري، وقالت: إن الأمير سلطان بن سلمان وصف روعة المشاهد في الفضاء الخارجي بأنها «تُظهر عظمة خالق كل شيء».
وقالت صحيفة كريستيان ساينس مونيتور إن مشاركة سعودي وفرنسي في الرحلة الأخيرة لمكوك ديسكفري أكسب الرحلة بُعدًا دوليًّا، كما كتب الأستاذ مصطفى أمين في عموده اليومي «فكرة»: «أشعر بفخر عندما أرى شابًّا عربيًّا في سفينة الفضاء. فهذا إنجاز عربي مهم يدل على أننا نُسهم مساهمة جادة في علوم الفضاء».
وغير ذلك من التصريحات والأوصاف المبهرة التي وثقها الأمير في الكتاب، فضلًا عن توثيقه لقاءه بالرئيس الأمريكي رونالد ريجان، والمؤتمرات العلمية التي عُقدت بعد عودته سواء برفقة الطاقم أم بمفرده؛ مناقشًا فيها دوره في الرحلة ومستعرِضًا رؤية المملكة في هذا المضمار.
كما قامت إحدى طالبات المرحلة الثانوية بمراسلة أعضاء طاقم الرحلة عبر البريد الإلكتروني وطرحت عليهم العديد من الأسئلة الخاصة بالرحلة وبالأمير «سلطان»، وقد وردت جميع الأسئلة والإجابات عنها في أحد فصول الكتاب تحت عنوان: «فضائيات: سؤال وجواب».
ونظرًا للجهود العظيمة التي قدَّمها الأمير في هذه الرحلة لخدمة الأمتين العربية والإسلامية؛ فقد نال فيضًا زاخرًا من التكريمات من داخل المملكة العربية السعودية وخارجها عربيًّا وإسلاميًّا ودوليًّا، وُثِّقت جميعها في متن الكتاب.
العرب بعد ديسكفري
كانت مشاركة الأمير سلطان في الرحلة الفضائية فتحًا مبينًا على العرب عامةً وعلى المملكة العربية السعودية خاصة؛ فقد أعقب هذه الرحلة مبادرات عربية كثيرة ركَّزت اهتماماتها على علوم الفضاء؛ فعُقدت المؤتمرات الدولية مثل: المؤتمر السعودي الدولي لتقنية الفضاء الذي حضره كوكبة من علماء الفضاء في العالم.
وأُسست الكثير من الهيئات العلمية والأكاديمية المختصة بعلوم الفضاء في الدول العربية كافة؛ فأنشأت المملكة معهد أبحاث الفضاء، وأسست مصر الهيئة العامة للاستشعار عن بُعد، وأقامت الجزائر وكالة الفضاء الجزائرية، وغيرهم من البلاد العربية التي لم تتوان عن اللحاق بركب التقدم والازدهار العلمي.
بعد استعراض أبرز النقاط التي تناولها كتاب «7 أيام في الفضاء: قصة أول ريادة عربية للفضاء»، يتبين لنا حجم التحديات التي واجهها العرب من أجل الوصول إلى الفضاء، ونستشف صدق نية وقوة عزيمة الأمير سلطان الذي كرَّس نفسه لهذه المهمة واضطلع بها على أكمل وجه مستأنسًا بالمصحف الشريف، ومواظبًا على أداء الصلاة والصوم حتى في ظل انعدام الجاذبية، ونلاحظ أيضًا تمويل المملكة غير المحدود في سبيل تحقيق الغاية؛ فقد أنفقت مبالغ طائلة بدايةً من تأسيس عرب سات، مرورًا بانطلاق القمرين الأول والثاني، وتدشين المؤتمرات من أجل ريادة عربية في مجال الفضاء.
يتميز الكتاب أيضًا بالتوثيق الفوتوغرافي للرحلة وما بعدها؛ إذ يشتمل على ألبوم صور موزَّع على فصول الكتاب يوثق كل لحظة في الرحلة، والخطابات التي أُرسلت إلى رائد الفضاء، والتي ساعدت جميعها على معايشة الحدث وليس القراءة عنه فقط.
قد يعجبك أيضاً
مراجعة رواية "الشاعر والملك" لوليد سيف: تحليل أدبي لتجربة سردية المزيد