«ربما من الصحيح أننا في أعماقنا نحن القراء، هناك عدم رضا كامن بهدوء، يجعلنا نتوق أن نكون في مكان آخر، أن نلجأ إلى الكلمات لنتقمص الحياة التي نريدها ولا يمكننا أن نعيشها بشكل مباشر من خلال واقعنا. ربما نحن البدو الرحل العظماء في هذا العالم، حتى وإن كان في أذهاننا فقط. اتضح أنه عندما فكرت حين كنت صغيرة في أن يكون لي جناحان، أردت فقط أن أسمح لروحي بالتحليق، والكتب هي الطائرة، والقطار، والطريق، إنها الوجهة والرحلة ودفء المنزل».
هكذا تختم الكاتبة آنا كويندلين كتابها كيف غيرت القراءة حياتي، وهو ما تعده مقالًا طويلًا عن القراءة في حياتها، تأخذنا في جولة سحرية لعالم القراءة والكتب وكيف شكلت كيانها ووعيها، ومن خلالها عرفت من هي وما هويتها التي تريدها، حتى أنها تقول إن القراءة ساعدتها على «التجرُّؤ بأن تحلم» بما تريد للعالم ولنفسها.
صدر الكتاب لأول مرة عام 1998 وقامت دار شفق للنشر والتوزيع بإصداره عام 2020 بترجمة مميزة للغة العربية من محمد كحال، والآن أدعوك لرحلة قصيرة معي بين طيات الكتاب.
السفر من المنزل: كيف تساعد القراءة على أخذ جولة في العالم؟
«كان منزلي يقع في مكان جميل في أطراف فيلادلفيا، لكنني عشت حقًّا في مكان آخر؛ عشت في طيَّات أغلفة الكتب التي كانت أكثر واقعية بالنسبة لي من أي شيء آخر في حياتي».
على كرسيٍّ مريح، وأمام موقد النار، وجدت آنا ضالَّتها. كانت تلك هي الحالة التي وصفت بها آنا نفسها في بداية اكتشافها للقراءة والعالم من حولها. لا تخرج للأصدقاء تلعب معهم أو تمارس أي نشاط غير القراءة؛ ذكرياتها الجميلة منحصرة في الكتب، الشخصيات التي كانت تقرأ عنها والحكايات التي تعرَّفت عليها، وصف الأشجار والغابات ومنابع المياه، كيف يمكن أن يكون شكل الشر أمام الخير، وما معنى الصواب ومعنى الخطأ.
فكما قالت هازل روتشمان الكاتبة الأمريكية من أصل جنوب أفريقي: «القراءة تجعلنا مهاجرين، تأخذنا بعيدًا عن المنزل، ولكنها تمنحنا منازل في كل مكان». وبشكل شخصي أتفق مع تلك الكلمات، فالقراءة تعوِّضك عن صعوبة السفر والتحرك وتكلفته، أظن أنني تجولت في العالم العربي كله تقريبًا بالقراءة في الأدب ومعرفة حكايات من كل دولة في الوطن العربي.
تعطيك تلك الرحلة فكرة عما يدور في بلاد ربما تعيش وتموت ولن تقابل منها شخصًا واحدًا، وتعرف عن حكايات اندثرت قبل مجيئك للدنيا، كيف يفكرون، ماذا يأكلون، أين يمكن أن يقضوا وقتهم خارج البيت، هل حكوماتهم جيدة أم لا، كل تلك الإجابات وأكثر يمكنك أن تتعرف عليها بالقراءة وتسافر لكل دولة وعالم حينما تقرأ عنها.
تساعد القراءة أيضًا على فهم النفس البشرية وطبيعتها، كيف يشكل البشر أفكارهم ونظرتهم للأشياء، وما هو أصل تلك الأشياء؟ طرق اعتقادهم وإيمانهم وكيف تؤثِّر طبيعة كل شعب في رؤيته للخير والشر، وطريقة حكمه على الأمور وانحيازهم لدين أو معتقد ما.
مع الوقت والاستمرارية تجعلك القراءة تتطور ذهنيًّا واجتماعيًّا؛ تصبح بشكل ما مدركًا لأبعاد ما يدور حولك من كل شيء تقريبًا، تشعر مع الوقت بأن القراءة والكتب، كما قالت أوبرا وينفري: «كانت القراءة بيتي، ومنبع قوتي، ورفيقي الذي لا يقهر».
نحن والكتب: عقدة القراءة وغُربة القراء
ترى الكاتبة أن هناك صورة نمطية للقراء، أنهم أولئك الذين يميلون للعزلة ويعزفون عن التواصل مع الآخرين، أولئك الذين يفضلون العيش بين صفحات الكتب عن العيش في الحياة الحقيقية، فهناك عقدة حقيقية في أمريكا وفي أغلب الأمم من القراءة والقراء، على الرغم من الشعارات الرنانة التي تشجع على القراءة.
لكن في الحقيقة هناك خوف متنامٍ من أولئك الذين يقرأون بلا هدف، وتنميط فهم «مجموعة من الحالمين الكسالى بلا هدف، لا يملكون ما يكفي من النضج لأن يغادروا كهف قراءتهم إلى حيث الحياة الحقيقية بل يعتقدون بتفوقهم على الآخرين من خلال انفصالهم عنهم».
وباعتباري قارئًا وباعتبار الكاتبة في الأساس قارئة، فإننا وكما أغلب القراء واجهنا صعوبة في شرح حبنا للقراءة للناس وإيجاد إجابة مناسبة، خاصة إن كنت طفلًا مختلفًا يترك اللعب في الساحات ومشاركة الأقران ويمسك كتابًا، أو شابًّا ينفق مصروفه المخصص للأكل والشرب واللبس لشراء الكتب مثلًا.
فلا يفهم أغلب الناس ما تمنحنا إياه الكتب من جواز سفر عابر لكل تعقيدات السفر، من تواصل مع ذواتنا والآخرين، فعلى عكس ما يشاع عن عزلتنا ووحدتنا، نحن نجد في الكتب المعلم والصديق الذي يأخذ بأيدينا نحو الحياة وفهمها، ورفيقًا يشرح لنا كل ما نمر به من مشاعر وأفكار ومراحل. ولذا عزيزي القارئ أنت لست وحدك فنحن معشر القراء مررنا بالفكرة نفسها، أنت لست غريبًا عن المجتمع، لكنك فقط ذو اهتمامات مختلفة عن البقية.
هل تختلف اهتمامات النساء والرجال بالقراءة؟
قد تختلف اهتمامات الرجال عن النساء في القراءة؛ كما ترى الكاتبة. فحياة الرجال المليئة بالأحداث والأشخاص بسبب الطبيعة العملية والحياتية، تجعل لهم اهتمامات بكتب مختلفة تتركز ربما مع التاريخ والسياسة بشكل أكبر، المعارك والحروب والمكائد وتطورات السياسة تُثير الرجال بشكل أكثر من غيرها.
أما النساء، وكما كانت الكاتبة تفضِّل، فهن يعددن القراءة نشاطًا خاصًّا فيه فرصة للتواصل العاطفي مع أبطال رواياتهن ومع شخصياتهن المفضلة، لذلك تجدهن يمِلنَ للأدب وما يجعلهن يصلن إلى أعماق مشاعرهن ويفهمنها. قد نختلف مع الكاتبة على ذلك التنميط النسبي ولكن رأيها يعتمد على تجربتها الشخصية ومشاركتها في أندية القراءة الخاصة بالنساء.
أنت لست وحدك: القراءة والتضامن العالمي
إن الكتب أداة مهمة للغاية في التخفيف من حدَّة العزلة وشعور الاغتراب أو الغُربة عن العالم، فقبل انتشار التلفزيون كانت الكتب هي الأداة الوحيدة والأهم في نشر الأفكار وتعارف الجميع بعضهم ببعض، وشعورهم بالتضامن الإنساني بينهم أو حتى اكتشاف الغامض بينهم، مما يثري التجربة الإنسانية ويعطي لها أنماطًا مختلفة من التفكير والحكم على الأمور.
ومن التجربة والقراءة يدرك المرء أهمية التنوعات التي تمر عليه وهو يقرأ؛ سواء في الأدب أم غيره؛ فالقراءة تجعلك تشعر أنك لست وحدك؛ فأنت تقرأ عن تجارب الآخرين ومشاعرهم وحياتهم وكيف تشبه حياتك وتجاربك، مما يُشعر القلب بالدفء بإحساس التضامن وأنك لست خارج العالم.
تعد الكتب والكتابة الوسيلة الأولى في العالم لنقل الفكر والثقافة بين الأجيال المتعاقبة والحضارات المتباعدة، فلولا كتابة الرموز لما وصلنا لكل هذا التقدم الذي نعيشه الآن، فالكتب هي آلة الزمن الخاصة بنا نحن البشر لا تلك الخيالية ذات الجسد المعدني، بل تلك الأوراق بأغلفتها السميكة تحمل تاريخ العالم وتطوره.
تحمل انتقال الحقيقة والحياة بين البشر من مختلف الأعراق والأجيال. تحمل حقيقة أن هناك من سبقنا في كل ما نمر به، وهناك من يعايش كل ما نرى، وهناك من سيعيش حقائقنا وكذباتنا. فيبدو أن التضامن العالمي أيضًا عابر لحدود الزمان كما أنه عابر لحدود المكان.
الكتب المحظورة: خطر المناطق المنبوذة
«كانت الفتنة هي الهدف الرئيسي من الكلمة المطبوعة منذ نشأتها تقريبًا، قد أدى اختراع المطبعة إلى حركة الإصلاح، وإلى الثورات على الصعيدين السياسي والجنسي، وحوَّلت الكتب المؤمنين إلى ملحدين، كما أنها هدت الملايين إلى الإيمان».
يطلق على الكتب المحظورة أحيانًا اسم «الفاكهة المحرمة» فهي الكتب التي تلمع أسماءها في سماء الحظر والمنع والاتهام بالكفر أو الشذوذ أو الدعوة للأفكار المُريبة؛ ولكنها تُثير فضولك ورغبتك الشديدة في التعرف عليها. فكما ترى الكاتبة، فإن القائمة المحظورة من الكتب في أغلب الأحيان، وفي أمريكا خاصة: تحتوي على كتب ممتازة عادة، أو كتب تتمتع بفضيلة طرح نوع من الحقيقة التي قد يغفل عنها الناس أو تُحجَب عنوة.
لو لم توجد الكتابة والكتب لكانت الفتنة أقل بكثير في صفوف الجموع أيًّا كانت، فالكتب والأفكار المتجددة تحرض وتقلِّب المترددين والمتشككين على أفكار الجموع. لذلك تجد تخوفًا لدى الطغاة من الانفتاح والتعلم لأنه يولد تيارًا قويًّا مناهضًا للتجبُّر والطغيان.
فتجد أن نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا مثلًا كان يسجن من يجد لديه أي كتب تخالف أفكاره، والنازيون أحرقوا الكتب كلها طالما أنها لا تمجِّد الفوهرر ونظامه وأفكاره، حتى أن المغول في التاريخ العربي حينما حاولوا محو التراث العربي والإٍسلامي حينما دخلوا بغداد ألقوا بكتب مكتبة بغداد في النهر وسيلة لفرض واقع جديد ومحو التاريخ والحاضر وتشكيل العالم كما يريدون؛ فهم يرون «أن الجهل هو الحل الأمثل للسيطرة على الناس».
أن تصبح كاتبًا
«لماذا قد يطمح أي شخص لأن يكون رئيسًا للولايات المتحدة، أو لشركة جنرال موتورز، إن كان بإمكانه أن يكتب أعمالًا مثل دي إتش لورانس، هذا ما كان يشغل فكري».
تحكي لنا الكاتبة كيف كان للقراءة الأثر الأكبر في اختيارها أن تصير كاتبة، فبالنسبة لها تعد القراءة المحرض الأكبر للكتابة، حيث كانت الكتب تحلق بها في عوالم بعيدة كانت تتحد معها وتنسى أي شيء آخر. كما كانت ترى أثر الكتب في والدها، مما جعلها تريد أن تكتب حتى وإن لم تستطع أن تبدع مثل العظمة الفنية التي كانت تقرؤها، لكنها تكتب «لتحرض الروح في عتمة الحياة اليومية فتثير الحياة فيها».
هل انتهى عصر الكتب حقًّا؟
ظن بعضهم أن التطور التكنولوجي يعد الخطر الأكبر على صناعة النشر الورقي الذي هدد الكتب بمعناها المعروف والمطبوع، وكانت هناك جلبة حول أجهزة الحواسيب الآلية التي ستحل محل الكتاب المطبوع، بالطبع كان هذا الجدل في نهاية التسعينيات من القرن الماضي وقت نشر الكتاب محل المراجعة.
لكن الكاتبة كانت تدافع عن الكتاب المطبوع وأنه سيجد طريقه للبقاء، لأن معشر القراء لا يحبون فقط محتوى الكتاب، بل يحبون الكتاب كائنًا بذاته، ولأن الكُتَّاب باقون ما استمرت الحياة. وترى الكاتبة أن هذا التطور التكنولوجي يسهم في زيادة إنتاج الكتب ونشرها وبيعها، وتطور طرق إصدارها، مما يعمل على نمو صناعة النشر والكتب.
فلم يقض التطور على الكتب إنما كان عاملًا أكبر على انتشار الفكرة وتنوع مصادر القراءة، وتوسُّع دائرة نشر الأفكار الغث منها والثمين، ولكن المهم أن الصناعة ما زالت في توسُّع مما يعني أن اهتمام البشر بالقراءة وشعورهم بأهميتها ما زال جاريًا لا ينضب.
ترشيحات آنا كويندلين للقراءة
تقدم لنا الكاتبة آنا كويندلين في نهاية كتابها الشيق عن القراءة أهم ما يبحث عنه القراء النهمون وهو قوائم القراءة، فتفتح لهم بابًا نحو عالم كبير من الكتب التي سيقضون معها أطيب الأوقات. تمنحنا 10 من أنواع القوائم التي أعدتها الكاتبة أو شاركها معها أحدهم:
- 10 كتب كبيرة ورائعة يمكن أن تستغرق منك صيفًا كاملًا في قراءتها ولكنها ليست لتمضية الوقت.
- 10 كتب واقعية تساعدنا على فهم العالم.
- 10 كتب من شأنها أن تساعد المراهق على الشعور بإنسانيته.
- 10 كتب سأنقذها إن احترقت مكتبتي.
- 10 كتب لفتاة جيدة المزاج.
- 10 روايات تدور حبكتها حول الغموض أرغب في قراءتها في الإجازة الصيفية.
- 10 كتب موصى بها من قبل أمين مكتبة مدرسة ابتدائية فريد من نوعه.
- 10 كتب من الاختيارات الجيدة لنوادي القراءة.
- 10 روايات حديثة جعلتني فخورة بأن أكون كاتبة.
- 10 كتب يقول صديقي بِن الذي له عدد لا يحصى من القراء أنه استفاد منها كثيرًا.
ختامًا نقول إن الكتب المؤلفة عن القراءة تمنحنا شعورًا بالتضامن والدفء، حيث نجد من يشاركنا مشاعرنا وشغفنا بالقراءة والكتب، فتغير القراءة حيواتنا وتمنحنا إدراكًا أعمق لتجاربنا وتجارب الآخرين فتخلقنا خلقًا آخر، وتجعلنا أكثر انفتاحًا وتقبُّلًا للحياة.
قد يعجبك أيضاً
مراجعة رواية "الشاعر والملك" لوليد سيف: تحليل أدبي لتجربة سردية المزيد