كتابة: حبيبة عثمان
1
تأخذنا الحكايا لأماكن بعيدة لا حدودَ لها، وتُخرِج ما فينا من معانٍ تخفُت مع الزمن، وهذا ليس مع كل حكاية عابرة، إنما تلك القادرة على استنطاق الأسئلة وحثنا للبحث عن جواب لها، فيرتبط الإنسان بها ارتباطًا وثيقًا ويأنس بها أنسًا محببًّا؛ إذ يجد فيها امتدادًا لحياته وانعكاسًا لمشاعره، أكثر من المعلومات المجردة عن تفاصيلَ حياته.

وهذه الرواية خير مثال لهذا؛ إذ لا ينبع إبداعها من السرد التاريخي ومتعته فقط – وإن كان هذا مجال إبداع الكاتب، وبقية أعماله دليل واضح عليه– بل من فن اختيار صاحبنا بطل الرواية –طَرَفة– وقدرته العالية في توظيف أخباره وشعره وما وصلنا عنه في حكاية بديعة لا مِلال فيها، وحسن تصويره لحياته كأنك تراها رأي عين، فلا تتخيل غير هذه الحوارات الرائقة، ولا تراه يفعل إلا تلك الأفعال، ولا يختار إلا ما اختار، وهكذا بقية قصته تتجسَّد أمامك كما سردها الكاتب، فتطغى عليك قدرة الأدب وسطوته على النفوس.
2
وأول ما تلمح إذ تطوف ببصرك في الرواية، كثرة ورود الشعر وحسن استنطاقه والتمثل به، فكأني بديوان طَرَفة متمثلًا بين ثنايا الرواية كلها، فتح الكاتب لك بابَه، وتركك تتجول بين حدائقه الغنَّاء، وخاصة معلقته الطويلة ومشاهدها، وليس شعر طرفة وحده ما ظهر في الرواية، بل ظهرت أشعار أخرى أيضًا.
فسواء يخلق الكاتب المشهد خلقًا جديدًا ليتماشى مع الأبيات، أم يأتي بروايته الحقيقية، أم يمزج بينهما؛ فإن هذا مما يرسخ الشعر في ذهنك ويجعلك تتصوره بصورته الحية؛ إذ لا يُلقى إليك البيت هكذا، إنما تتلقاه في سياق كامل ومشهد تهيأت نفسُك له، فتتمثل به أينما ارتحلت: «والشعر زاد المرء في أشواقه وأحلامه، وسلواه في خيباته وانكساراته، ورفيقه في أسفاره، وسجل أمجاد قومه وآبائه حين تنقضي الأيام وتنصرم السنون ويغيب الشهود. والشعر سبيل العشاق إلى معشوقاتهم وعزاؤهم عند فقدهن. والشعر يشعل الحروب ويطفئها. وكم قتل سحر البيان ناسًا وأحيا ناسًا كانوا على وشك الهلاك. وكم رفع وخفض، وجمع وفرَّق».
وهذه بعض مشاهد الرواية وما تمثلت به من أبيات:
حينما عرَّج على منازل محبوبته سلمى وقد ارتحلت، فأنشد متفجعًا:
أتعرفُ رسمَ الدارِ قفرًا منازلُه
كجفنِ اليمانِ زَخرفَ الوشيَ ماثلُه
ديارٌ لسلمى إذ تصيدك بالمنى
وإذ حبلُ سلمى منك دانٍ تواصلُه
إلى نهاية القصيدة.
وحينما ظلمه قومه في ورثهم من أبيه:
ما تنظرون بحق وردةَ فيكم
صغُر البنونُ ورهطُ وردةَ غُيَّبُ
قد يبعث الأمرَ العظيمَ صغيرُه
حـتى تظل له الدماءُ تصبَّبُ
وحينما تأسَّى على موت صاحبه الملك المظلوم، فلم يجد ما يواسي به نفسه غير بيت امرئ القيس الأثير:
فقلت له لا تبكِ عينُك إنما
نحاول ملكًا أو نموتَ فنُعذرا
وفي حديثه مع الناقة يعلِّمها الشعر وتعلِّمه الصبر:
أصحوتَ اليومَ أم شاقَتكَ هِرُّ
ومن الـحب جنونٌ مستعِرُّ
لا يكن حبُّكِ داءً قاتلًا
ليس هذا منكِ مَاويَّ بحُرِّ
كيف أرجو حبَـّها من بعد ما
عَلِقَ القلبُ بنُصبٍ مستمرٍّ
وحينما سأله عمرو بن هند عن أي أبيات المعلقة أقرب لنفسه، فأجاب:
إذا القومُ قالوا من فتـىً خلت أننـي
عُنِيتُ فلم أكسَل ولم أتبلدِ
إلى نهاية الأبيات التي يفخر فيها بنفسه ويعتد بها.
3
وطَرَفة، ذلك الشاب الفتيُّ البهيُّ، ونفسه التي بين جنبيه أكثر ما يعذبه في هذه الحياة، وروحه الأبيَّة التي لا ترضى حياة الذلة والمهانة، فطوال الرواية ترى تقلبات أمره وشتات نفسه وعذاب روحه، وفي كلٍ يؤثر اختيار الشجاعة والمروءة ولو على حساب حياته.
فإذا ما أنِف من قومه ذلَهم وخضوعَهم للملك، انقلب عليهم وراح يلبي ملذات نفسه وحياة قلبه كما يسميها، فعنده أن يعيش حرًّا طليقًا لحياة قلبه خيرٌ من حياة بائسة يعيشها تحت ظِلِّ ظُلمِ الملك. وإذا استوحش الناس والأرض من حوله، ذهب يقطع الصحاري القفار يطلب أنيسًا وإن كان من ذؤبان البيد، فيصاحب الصعاليك ويمشي في حاجاتهم قبل حاجة نفسه، فهذا صاحبه عامر يسير معه في خطبة ابنة عمه فتستغلق عليهم الأمور حتى تودي بهلاكهم، وكان لطرفة الخلاص بنفسه، لكنه يأبى ترك صاحبه كأنما لاح في نفسه قول الآخر:
لا يتـرك ابنُ حرةٍ زميلَه
حتـى يموتَ أو يرى سبيلَه
وفي تلك المحنة ينقذه قومه، وهو الذي كان يرفض كل شيء منهم، حتى نجاته! وإذا حنَّ ومال لقومه ذهب يتفقدهم، فيجد نفسه بلا مال، فيعمل ويرعى إبل أخيه إيمانًا منه أن مالًا لا يأخذه بكسب يده لا يُعوَّل عليه.
ويذهب لنصرة الملك المظلوم ويرافقه في مسيره حتى يصيرَا صاحبين لا ملك ونديمه، فيغدر القوم به فيحزن لذلك ويقصد أخيه الملك الظالم للأخذ بثأره.
ثم ها هو يتودَّد للملك الذي ثار عليه من أول الحكاية، فيذهب ويحكي له الأشعار والأخبار ويتقرب منه، وقد أقسم غير مرة لما عُرض عليه الذهاب له: «لا والله، ما أطَّت الإبل وما حنَّت النيب وما حملت العيون الماء!».
ولا تجد أصدق من وصف خاله المتلمس حين قال عنه: «اِعلم أن أبصر الناس بعورات الحياة أكثرهم همًّا وغمًّا وأرقًا. ولعمري إن الحياة مليئة بالنقص والخلل والعورات. وإن أخاك أحدُّنا بصرًا وأنفذنا رأيًا وأرهفنا حسًّا. وقد أُوتي نفسًا كمعدن المرآة الصقيل، لا تظلم الجميل ولا تجمل القبيح. غير أن القبيح في الحياة أكثر. أو كأن نفسه ماء غدير صافٍ، لا يخالطه شيء من الكدر إلا ظهر فيه. فماذا عساه يفعل وهو ما زال محيَّرًا بين مثال نفسه وبين حال البشر، فلا هو يستطيع أن يجعل الحياة على مثال نفسه، ولا هو يستطيع أن يجعل نفسه على صورة الحياة وناسها. وقد جرب الفرار من قومه حين خرج منهم، ثم جرب الفرار من نفسه حين عاد إليهم. فلا اطمأنت نفسه بهذه ولا تلك. فهو بين حَجري الرحى، أو بين حبلين يتجاذبانه: كلٌّ إلى جهته. هذا هو أخوك، وتلك أسباب ما تجد منه. فترفق به هُديت الرشد».
4
وللموت مع طرفة سبيلٌ خاص، فهو منذ موت أبيه لا يأبه الحياة، يصارع الموت ويسلك له كل مسلك، فاحتمالات الحياة كلها لا تشبع روحه، ومع هذا: « لكأن الموت الذي لا يخشاه يفرُّ منه، أو يراوغه ليأخذه على غير إرادته، وبذلك فقط يقهره! ».
لكأن صاحبنا كان يشعر بما تخفي الأيام له، «ولسوف يدعوه ذلك إلى الإقبال على الحياة بلذاتها ومخاطرها، إقبال من يظن أنه ليس بعد اليوم غد، فكأنه يختلسها من الموت المتربص اختلاسًا».
وأرى في طرفة وموته المبكر كل من رام سبيلًا للعلا والعز فحالت دونه الأسباب، وكل روح حرة تعذبها نفسها فلا تركن لما يقيها هذا العذاب، إنما تبدد سعيها في كل درب. وربما ذلك ما يوضح تلك العلاقة القديمة لطرفة مع الموت وامتلاء شعره به، فيقول في رثائه لنفسه:
لعمرُك إن الموتَ ما أخطأ الفتـى
لكالطِوَل المُرخـى وثِنياه في اليدِ
وقوله:
فإن مُتُّ فانعينـي بما أنا أهلُه
وشقي عليَّ الجيبَ يا ابنةَ معبدِ
ولا تجعليني كامرئ ليس همُّه كهمِّي
ولا يُغنـي غَنائي ومشهدي
على أن الرواية التي اختارها الكاتب وأمات بها شاعرنا فيها بعض نظر، والناقد عَدِي الحربش يرفضها كلها.
5
وختامًا، أحسب في الرواية وتفاصيلها رثاءً طويلًا لطرفة، في مشاهدها الحزينة، وحواراتها العبقرية، ونفس طرفة المهمومة الحاضرة دومًا، فما وصلنا من شعر قومه في رثائه غير قول أخته الخِرنق:
عددنا له خمسًا وعشرين حجةً
فلما توفاها استوى سيدًا ضـخمًا
فُجعنا به لما انتظرنا إيابه
على خير حـيـنٍ لا وليدًا ولا قَحما
فهذه رواية كُتبت بمداد الشعر، تمد لك يدها لتربطك به وبحياة العرب، وما أحسن هذا وأنبله! وإني لأرجو أن تكثُرَ مثل هذه النماذج البهية.