حينما يبدأ الإنسان في إدراك أحوال العالم من حوله، تبدأ معه بشكل غريزي محاولته ترك بصمته فيه وإحداث تغيير ما يحسِّن ما يراه سيئًا؛ فعندما نكتشف مناطق الحروب والمجاعات والإبادة الجماعية، سواء بسبب السياسة أم بسبب نقص المعونات الطبية أو نقص الإمكانيات، سنتطلع دومًا لتغيير ذلك وإنقاذ الحياة التي تعاني تلك الظروف.
وأنا هنا أتكلم عن الذين يسلكون المسلك الأخلاقي مع إخوانهم في الإنسانية، وكذلك يتحدث الفيلسوف الأمريكي المعاصر بيتر سينجر في كتابه «الحياة التي يمكنك إنقاذها: كيف تقوم بدورك في القضاء على الفقر العالمي» الصادر عن دار معنى للنشر في عام 2021، بترجمة مميزة للدكتور سعيد توفيق، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة.

تدور الفكرة العامة للكتاب عن محاولات تغيير واقع الفقر العالمي الذي يسبب دمار أمم نسمع عنها، وحالات أخرى لم تمر علينا ولكنها بسبب نقص الإمكانيات الطبية أو المادية أو بسبب أزمات سياسية معينة؛ تأخذ منحىً سريعًا في طريق الموت وانعدام الظروف الآدمية للحياة.
فالفقر الذي يعد أكبر أزمات العالم الحديث بسبب السياسات الاقتصادية والانحيازات هو أحد أخطر أسباب القتل غير الرحيم في العالم، ولذلك يتحدث الكتاب هنا عن أهمية التبرُّع والعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، سواء بيدك أم مالك أم حتى بقلبك.
التبرُّع: هل يجب علينا تقديم المساعدة؟
تعد إثارة الجانب الأخلاقي بداخل القارئ أحد أهداف الكتاب المباشرة والصريحة؛ فهو يستحث الجانب الإنساني بداخل كل من يقرأ لأخذ طريق العمل على إنقاذ العالم من خطر الفقر ومآسيه؛ وذلك عن طريق النظر للمعاناة التي يتعرض لها الآخرون ومساعدتهم، حتى لو كان ذلك على حساب تكلفة ضئيلة من دخلك أو وقتك الثمين، أو حتى تكلفة عالية في بعض الأحيان.
فمثلًا، إن كنت تسير في طريقك للعمل وشاهدت طفلًا يغرق في المجرى المائي الذي تمر بجانبه، هل ستتمكن من مواصلة طريقك أم أنك ستحاول إنقاذه؟ الإجابة هنا شبيهة بمساعدة الأمم الفقيرة التي تعلم أنها تفقد كل يوم عددًا كبيرًا من أولادها بسبب نقص الإمكانيات وقلة الغذاء؛ ألا يستحق الأمر منك بعض التوقف والمشاركة؟
الحقيقة أن الأمر ليس استجداء أو استعطافًا وإنما هو إثارة للجانب الأخلاقي والإنساني في الذين يمكن أن يكون فيهم الأمل في محاولة إنقاذ العالم من الفقر، فالبرهان الأخلاقي ليس الحل دائمًا، ولكن الحقائق والوقائع وأرقام الوفيات من الأطفال قد تحفِّز على المشاركة.
الفائض عن الحاجة حقٌ للمحروم: الرؤى التراثية للمشاركة
هل الفائض عن الحاجة والذي يعد ما بعد مرحلة الرفاهية لا يمكن أن يغيِّر العالم لو تم التبرُّع به؟ هنا يتحدث الكاتب إلى ميسور الحال الذي يتوفر لديه فائض من الدخل، فيشتري به أكلًا زائدًا أو ملابس لا يرتديها أو وقتًا يسمح له بالمشاركة البدنية في الأعمال الخيرية، ألا يمكن أن يكون ما هو زائد عن الحد مخرجًا لشخص آخر من أزمته؟
في الإسلام، يجب شرعًا على كل شخص يتخطى النصاب الشرعي بإخراج الزكاة عن دخله، وعن الأصول التي يمتلكها إن كانت تتخطى النصاب. وهذا يؤكد على فكرة الكتاب، وأن موضوع إخراج المال أو المساعدة في إنقاذ العالم من الفقر هو واجب إنساني وديني أصيل؛ فهو لا يقلل من متعة الشخص صاحب المال أو يضره أو يفقره؛ لا يريد أي شخص ذلك، وإنما الحديث دائمًا عن أن هناك من يمكن إنقاذهم بالهامش البسيط الذي يمكنك التبرُّع به، ولا تستحقرن من المعروف شيئًا، لأن قليلًا بالنسبة للغني هو كثير للمعدم.
في القرن الثاني عشر ظهر مرسومٌ يسمى مرسوم جراتيان، يقول: «الخبز الذي لا تعطيه يخص الجائع، واللباس الذي تمنعه يخص الشخص العاري، والمال الذي تدفنه في الأرض هو عتق للمفلس وتحرُّر له». كان مرسوم جراتيان مرسومًا مباشرًا وواضحًا، فهو لا يتحدث عن الإحسان أو الاستعطاف، وإنما يتحدث بشكل مباشر عن الواجب الديني والإنساني للشخص.
التبرعات والأعمال الخيرية والآراء السياسية
أما سياسيًا، فقضية التبرع بالأموال من القضايا الشائكة بسبب تباين المواقف منها؛ فأصحاب الاتجاه اليميني يرون أن المنادين بالتبرعات سيسمحون للدولة ومؤسساتها الخيرية بأخذ أموالهم وإعطائها للفقراء لأنهم مجرد فقراء، وأن هذا بالنسبة لبعضهم قد لا يكون محفزًا على العمل وقد يكتفي به البعض.
أما أصحاب الاتجاه اليساري فَيَرَوْنَ أن التبرعات والمؤسسات الخيرية تعمل كمسكِّن للشعوب الفقيرة وأبناء المجتمع غير القادرين على كسب المال، وينفي المسؤولية الحقيقية عن نظام الدولة السياسي الذي يساهم في إفقارهم أو لا يمنع عنهم الفقر والعَوز.
يميل الكاتب، وأنا أيضًا، إلى فكرة أخرى ثالثة هجينة؛ أنه لا يجب التوقف عن التبرع لهذا السبب أو ذاك، وإنما علينا مع ذلك أن نعمل أيضًا على إصلاح نظام الإفقار الاقتصادي العالمي الرأسمالي؛ الذي يساهم بشكل رئيسي في زيادة ثروة الأغنياء وفقر الفقراء. بالتالي يحتاج الوضع إلى تغيير النظام العالمي الاقتصادي والثورة عليه، لا أن نوقف التبرع بشكل عام بسبب مساهمته في تأخير لحظة الثورة.
التبرع المباشر أم التنمية؟
توجد حالات عديدة لا يجدي فيها التبرع المباشر للأشخاص بالمال أو الغذاء بالفرق طويل الأمد الذي نطمح به إلى إنقاذ العالم، عدا حالات الطوارئ والأمراض، وإنما من المهم أن تكون هناك سياسة مالية واقتصادية تجعل الأشخاص منتجين وقادرين على كسب رزقهم وإكفاء احتياجاتهم. المال المباشر ليس دائمًا الحل، فهو في النهاية يتم صرفه دون أن يكون منتجًا، وإنما الاستدامة في التنمية والمشروعات وتحسين الخدمات التي تساهم على المدى البعيد في تحسين حياة الناس الذين يفتقدون لها.
العوامل النفسية في عملية التبرُّع
توجد العديد من العوامل التي تعتمل في الطبيعة البشرية، وتتحكم في أخذ المتبرعين لقراراتهم بالتبرع أو لا، إذ يوجد اتفاق أخلاقي بين محبي التبرع على أهميته وضرورة محاولة إنقاذ البشر في الجزء الفقير من العالم؛ ولكنَّ عددًا لا بأس به منهم لا يتبرع دائمًا رغم سعة قدرته على التبرع؛ فهناك عوامل نفسية وبشرية وجدها الكاتب قد تجعل للمتبرعين تفضيلات شخصية، ومنها:
1. هوية الضحية
يفضل غالبية المتبرعين دفع المال لضحية محددة هويتها سابقًا وليست ضحية مجهولة في أقصى الأرض لا يربط بينه وبينها شيء لأنها مجهول بالنسبة للمتبرع. فكل حالة كان التبرع فيها محددًا سلفًا لضحية معينة كانت عملية جمع المال أسهل وأكبر.
2. الرابطة الإنسانية والأخلاقية
لا يشعر أغلب المتبرعين بالرابطة الإنسانية أو الأخلاقية مع الناس الذين لا يعرفون عنهم شيئًا؛ على العكس لو كان هناك ارتباط لغوي أو ديني أو جغرافي مع شعب ما مستضعف، فستجد أن الكثيرين يهبُّون للتبرع والتضحية بمالهم من أجل إخوانهم حتى تنكشف عنهم الغمَّة.
3. أثر التبرع
لا يرى كثير من المتبرعين أثر أموالهم فيظنون أنها لم تجدِ نفعًا، وهذا بسبب توسع دائرة الفقر والحاجة في العالم، فمن الصعب فعلًا إظهار الأثر الفردي للشخص، ولكن بالتأكيد أن كل مبلغ يتم جمعه بجوار المبالغ الأخرى يخلق تغييرًا، قد تصعب رؤيته حاليًا لكن أثر الفراشة لا يزول.
4. عزيمة المتبرعين
قد تنخفض عزيمة المتبرعين بسبب اتكال بعضهم على بعض، مما يقلل من احتمالية نجاح الفكرة، فنحن بحاجة لتشجيع الجميع على التبرع وأن كل مشاركة أو مساهمة ستُحدث فارقًا إجماليًّا كبيرًا يسمح لكثير من الناس بتغيير حالتهم.
5. دعوات الخلاص الفردي
تسببت دعوات الخلاص الفردي في عملية إفقار العالم بشكل أو بآخر، فالخلاص الفردي والنجاح المالي سبَّبا انفصالًا في المجتمع البشري والإنساني، وأصبحت فكرة النجاح المالي أهم من فكرة العائلة والأصدقاء والمساعدة وغيرها، فمن الضروري أن يعيد العالم تفكيره في فكرة النجاح الفردي التي تغذيها الرأسمالية وتساهم في تقليل الدعم المطلوب من أصحاب الأموال للعالم المحتاج.
ختامًا، تحتاج فكرة التبرُّع للعمل الكثير والدعم والدعوات لمحاولة إنقاذ العالم من الهاوية التي يسير إليها، ورغم أن الفقر لم ينقطع من التاريخ أبدًا، فإن القضاء عليه في هذه الأيام أسهل، والمساهمة في إنقاذ العالم وحياة البشر فيه في الإمكان، لكن الأمر يحتاج للنوايا الجادة والعمل المستمر، وأتمنى أن ننجح يومًا ما.
قد يعجبك أيضاً
مراجعة لكتاب «محاط بالحمقى» تكشف كيف نصنّف شخصيات من حولنا المزيد
مراجعة رواية "الشاعر والملك" لوليد سيف: تحليل أدبي لتجربة سردية المزيد