هل الخيبة والشعور بالضعف هو ما أثار قلم الكاتبة للتعبير وإحداث التغيير، ولو في عالم روايتها على الأقل؟ هذا أول سؤال يواجهنا عند قراءة هذه الرواية التي تروي لنا عن الحب والحرب؛ الآلام والآمال.
أول ما يستفزك لسبر أغوار الحكاية هو عنوانها، إذ ينتابك الفضول لتعرف من ذا الجريء الذي أقدم على حب فتاةٍ عبرية؟ ومن هي؟ وما القصة؟

«في قلبي أنثى عبرية» روايةٌ مستوحاة من قصة حقيقية تنتمي خطوطها العريضة إلى الواقع مع إضافة شيءٍ من الخيال؛ للحفاظ على الخصوصية، أو ربما لسد ثغراتٍ تنقض القصة الحقيقية. تطرح الرواية عددًا من القضايا ترتبط بالدين والإيمان، والحب والحرب، والمقاومة والصداقة. وتدور أحداثها بين تونس ولبنان، فتسلط الضوء على يهود تونس والمقاومة في جنوب لبنان من خلال قصص شخصيات مختلفة. موضوع الرواية جميلٌ وجديد هو تعايش الأديان، والإسلام واليهودية خصوصًا، وما بين هذه الطوائف والمجتمعات من علاقات.
خلاصةٌ عن الرواية
تحكي الرواية قصة فتاة من عائلة مسلمة اسمها ريما نشأت في قلب حارة اليهود في الجنوب التونسي، في أحضان عائلة جاكوب اليهودية المؤلفة من الوالدين وابنهما جاكوب والابنة الكبرى التي سافرت مع زوجها إلى لبنان. عاشت ريما معهم حياة سعيدة، وكان جاكوب أكثرهم حبًّا لها وتعلقًا بها، حيث منحها حنان الأب الذي تفتقده، إلا أنه تركها بعد إصرار زوجته وخوفها من أن يتأثر أطفالها بالعقيدة الإسلامية فيتركوا دينهم اليهودي. تتطور الأحداث وتتشابك حول ريما وتنتقل الأحداث لمدينة قانا العتيقة في الجنوب اللبناني، وتدخل ريما في حياة ندى التي نشأت على اليهودية بعيدًا عن والدها المسلم. وفي ليلةٍ ينشغل قلبها بأحمد؛ الشاب المصاب الذي قَدِمَ مع صديقه إثر إصابته أثناء الاشتباكات بين المقاومة والاحتلال الإسرائيلي. كان أحمد من عناصر المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الصهيوني، وأحب ندى متجاهلًا الفروق الدينية والطائفية بينهما. تتكرر اللقاءات وتتصاعد الأحداث المثيرة حول الفتاتين لتُخرِج كلًّا منهما من الحياة الروتينية وتسير بهما إلى موعدٍ مع القدر.
تشرح المؤلفة خولة حمدي من خلال روايتها هذه المفهومَ الخاطئ عن الإسلام لدى غير المسلمين، والقائم على الاتهامات بالتخلف والفساد والفوضى والإرهاب، موضحةً جمال الدين الإسلامي وأخلاقه.
جاء عنوان الرواية مناسبًا لجذب انتباه القارئ وكانت له دلالته؛ إذ أرادت الكاتبة الإشارة إلى ما كانت عليه بطلة الرواية قبل أن تعتنق الإسلام، وقد اختارت لفظ «عبرية» لتخفف من وقع الكلمة على المتلقِّي؛ فحققت بذلك عنصر الجذب. تعددت المدن التي دارت فيها أحداث الرواية، فبدأت بالقارئ في تونس حيث مدينة جربة التونسية مُنطلق الأحداث، ثم قانا اللبنانية، إلى جانب باريس الفرنسية، وتنوعت الأماكن التي دارت فيها الأحداث بين المسجد، والبيت، والمكتبة، وغيرهم.
الجوانب النفسية الاجتماعية وتأثيرها
توفر الرواية استكشافًا غنيًّا للهوية والرغبة واكتشاف الذات؛ وذلك بفحص العوامل النفسية التي تؤثر في تجارب الشخصيات، وتُكسب القارئ رؤى قيمة حول تعقيدات التوقعات الشخصية والثقافية. وتثير الرواية تفكير القارئ في تأثير الأعراف المجتمعية، وتأكيد السعي لقبول الذات، وقوة التأثير الفردي في تشكيل هوية الفرد ورغباته.
ومما تسلط الرواية الضوء عليه، العناصر التالية:
تشكيل الهوية
يمثل هذا العنصر أحد المحاور المركزية في الرواية. فندى؛ تلك الشابة اليهودية قلب الحكاية، الأنثى العبرية التي سُمِّيتْ الرواية باسمها، تتصارع مع التوقعات التي وضعتها عائلتها ومجتمعها لكونها ابنةً لأم يهودية وأب مسلم وكانت نشأتها في بيت زوج أمها «جورج» المسيحي. كانت ندى في صراع ما بين تراثها اليهوديِّ من جهة، ورغباتها وتطلعاتها من جهة أخرى، وهذا الصراع أساسيٌّ في تشكيل هوية الفرد كما في نموذج إريك أريكسون، وكذلك تصوِّر الرواية التوتر بين الالتزام بالمعايير الثقافية وتزوير الهوية الفردية.
الإدراك الذاتي والمقارنة
تنخرط ندى بشكل ملحوظ طوال الرواية في تأمل ذاتها ومقارنة نفسها بالآخرين، في شرح عملي لنظرية المقارنة الاجتماعية التي طورها ليون فيستينجر؛ كيف يُقيِّم الأفراد أنفسهم من خلال مقارنة قدراتهم وإنجازاتهم وصفاتهم بالآخرين، فيتأثر صراع ندى الداخلي ليتناسب والتوقعات المجتمعية، وتحاول احتضان نفسها الحقيقية بتصوراتها لآراء الآخرين وأفعالهم من خلال تحليل هذه المقارنات الاجتماعية. لذلك يمكننا رؤية تصورها الذاتي وتأثيره على طريقة اتخاذها قراراتها.
الرغبات والعلاقات
جانب آخر مهم من الرواية هو استكشاف الرغبة وتكوين العلاقات. إذ تتنقل مشاعر ندى الرومانسية في رحلتها تجاه أفراد من خلفيات ثقافية مختلفة، متحديةً بذلك المعايير التقليدية لمجتمعها. ويمكن تطبيق النظريات النفسية الاجتماعية حول الجاذبية، مثل المنظور التطوري ونظرية التبادل الاجتماعي؛ لفهم الديناميكيات المعقدة للرغبة والسعي وراء الحب، حيث تسلط هذه النظريات الضوء على العوامل التي أثرت على اختيارات ندى والطرق التي تشكلت بها رغباتها.
التأثير الاجتماعي
تتعمق الرواية أيضًا في إبراز تأثير الأعراف الاجتماعية على السلوك الفردي؛ إذ واجهت ندى ضغوطًا لتتماشى مع التوقعات التقليدية، حيث عكس كفاحها للتحرر من هذه المعايير مفاهيم التأثير الاجتماعي والامتثال، من خلال تطبيق نظريات مثل تجارب المطابقة لسولومون آش ودراسات الطاعة لستانلي ميلجرام، ويمكننا تحليل الأشكال المختلفة للتأثير الاجتماعي الموضحة في الرواية، حيث يتيح لنا هذا التحليل فهم العمليات النفسية الكامنة.
عناصر الرواية
احتوت روايتنا عناصر الرواية الثلاثة، وهي:
1. البداية
كانت البداية عندما أصيب أحمد في عملية من عمليات المقاومة، وطرق الصديقان أحمد وحسان بيت ندى طالبين المساعدة. ومن ثمَّ أعجبت ندى بأحمد إلى الدرجة التي ارتقى فيها الإعجاب بعد ذلك إلى الحب، وبعد تعافي أحمد ومغادرته المكان، بدأ تطور العلاقة بينهما بالرغم من اختلاف الأديان، كلٌّ على أمل أن يغير الآخر ديانته. فتتواتر الصراعات والأحداث، ويتمكن أحمد من إقناع والديه وأخته سماح أن يتقدم لخطبة ندى، وهي بدورها أيضًا واجهت الكثير من التحديات والمشكلات مع أمها –سونيا- التي كانت تكره المسلمين، وفي نهاية الأمر تمكنوا من عقد الخطبة.
وفي مكانٍ آخر تعيش ريما في تونس مع جاكوب حتى أتمت الخامسة عشرة من عمرها، الذي كان شخصًا متفهمًا ومحبًّا لها بشكل كبير، فكان لا يمنعها من أن تمارس شعائر دينها الإسلامي في بيته، حتى وجد أنها تتغير وتصبح أكثر وعيًا بتعاليم دينها، وزاد الأمر سوءًا أن لاحظت زوجته ذلك فطلبت منه أن يطردها خارج البيت؛ لأنها الآن أصبحت تشكل خطرًا على ابنتيهما، فأرسل جاكوب ريما إلى لبنان عند أخته راشيل. تبدلت حياة ريما حيث عانت كثيرًا حتى عملت خادمة في بيت ندى، تآلفت الفتاتان ونشأت صداقة قوية بينهما في وقت سريع، استطاعت ريما أن تشير إلى الفروق الكبيرة بين معاملة الدين الإسلامي للفتاة وبين الدين اليهودي؛ الذي يُحرِّم على النساء أن يلمسن التوراة، وغيره من الممارسات التي توضح مدى اضطهاد المرأة وتهميشها، مما أثار فضول ندى للتعرف أكثر وعن كثب على الدين الإسلامي، وساعدها أحمد في ذلك.
2. الحبكة
كان الاحتلال الإسرائيلي يوجه الكثير من الهجمات على لبنان آنذاك، وفي إحدى تلك الهجمات أصيبت ريما واستشهدت وهي في أحد الأسواق نتيجة لانفجار أحد الصواريخ بمكان تواجدها، تأثرت ندى بذلك مما جعلها تقع في مشكلة نفسية كبيرة، وتتوالى الأحداث لتزداد الأمور تعقيدًا، ففي إحدى العمليات الفدائية أصيب أحمد وفقد الذاكرة تمامًا بل واختفى أيضًا، مرَّت فترة تقترب من خمس سنوات دون أي أثر لأحمد، وقد أسلمت ندى واستمرت في إرسال الخطابات طيلة تلك المدة دون جواب، تقدم حسان لخطبتها اعتقادًا منه أن أحمد لن يعود ثانية، لكن يشاء الله أن يعود أحمد لكنه لا يتذكر أي شيء، وقد اعتنق المسيحية على يد شخص استغل فقدانه ذاكرته وأخبره أنه كان مسيحيًّا، طلبت سماح -أخت أحمد- من ندى أن تحاول مساعدته في استعادة ذاكرته من جديد، وبدأت بالفعل القيام بذلك لكن دون جدوى، وعلى الجانب الآخر موقف حسان المعقد وتفكيره بصديقه الذي عاد وشعوره بعد أن يعلم أنه خطب حبيبته.
3. النهاية
ذهب أحمد لمنزله في القرية ووجد الرسائل التي كانت ترسلها له ندى، وبعد بعضٍ من الوقت استعاد ذاكرته، وهنا اتخذ حسان موقفًا بطوليًّا إلى حدٍّ كبير، فآثر صديقه على نفسه وقام بفسخ خطبته من ندى ليعود أحمد لها من جديد.
آراء حول الرواية
اشتملت الرواية على العديد من مواطن القوة؛ فالقصة جميلة، وتشرح بعض القيم الإسلامية، وتوضح صراع النفس لتقبل الحق وجهاد الثبات عليه والدعوة إليه، وتميزت بأسلوب كتابة راقٍ ولغة جيدة وقصة مؤثرة، تجعل القارئ يعيش معها القصة بشغف ويدعو لأناس أن تنتهي القصة بإسلامهم.
أما عن مواطن الضعف في الرواية؛ فقد يشعر المرء بالكثير من المبالغات في أحداثها وربما قليل من السذاجة أيضًا؛ ففي النصف الأول من الرواية كان الأسلوب شائقًا والحبكة ممتازة، وكانت القصة تسير بنسق طبيعي، لكن النصف الثاني كان مختلفًا تمامًا عن الأول وكأن كاتبًا آخرَ هو من كتبه، أو كأن هناك فاصلًا زمنيًّا طويلًا بين ما كُتِبَ في الشطر الأول والشطر الآخر، فتغير أسلوب الكاتبة وكأنها نسيت أسلوبها وفقدت الحالة والعاطفة والإحساس الذين جعلوها تبدع في بداية قصتها، فأصبحت الأحداث نوعًا ما غير واقعية، وباتت النهاية منتظرة ومتوقعة، وتسلسلت الأحداث دون شغفٍ أو إثارة، وظهرت معالم النهاية، فبدا واضحًا أن ذاكرة أحمد ستعود كاملةً، وأن ندى بعد هذا الصراع سوف تتزوج أحمد، فالأحداث الحقيقية تنتهي نهاية غير واقعية وبتسلسل غير منطقي، على عكس الشغف الذي يشعر به القارئ في بداية الرواية والذي يفقده في النصف الآخر حتى النهاية.
وبالرغم من النهاية التي تبدو سعيدة ومفرحة بإسلام الجميع إلا أن الدعوة ليست بهذه السهولة، وتقبُّل الإسلام على مَن عاش العمر كله في كرهه ومحاولة الابتعاد عن معتنقيه ليس بالسهولة والسلاسة التي صوَّرتها الكاتبة، فيتبادر لذهن القارئ السؤال المنطقي والتعجبي كيف دخل كل هؤلاء الإسلام دون دعوة؟ وإنما بمجرد فضول المعرفة وتغير الحالات النفسية. في المجمل، القصة جميلة ومؤثرة وتوضح حالة حقيقية من التعايش بين الأديان والتعاملات البشرية، وإن أعوزها بعض الضبط الأدبي.
قد يعجبك أيضاً
مراجعة لكتاب «محاط بالحمقى» تكشف كيف نصنّف شخصيات من حولنا المزيد