في إطار الحياة التي نعيشها، نقوم بالكثير من الممارسات والتفاعلات الاجتماعية، التي قد تبدو لنا عادية من كثرتها، إلا أن فهمها في إطار فلسفي يضعنا أمام رؤية مهمة مفادها أن الشيء اليومي مثل النوم أو المشي، لا يجب اختزاله في الجانب البيولوجي فحسب، ولكنه ممارسة اجتماعية شديدة التعقيد نشارك في صنعها، وقد تحدث تصدعًا داخل جسم المجتمع.
قديمًا كان الشغل الشاغل للعلوم الاجتماعية التركيز على النظريات الكبرى، لكن في عالمنا اليوم المتسارع والمتسم بالتقنية المتزايدة، أصبحنا في حاجة ماسة إلى فهم الشيء اليومي الذي يعبر عن ذواتنا المقهورة التي تبحث عن التحرر في مواجهة آليات السلطة التكنولوجية المحيطة بنا، وتراقب نشاطنا بكل دقة.
تأتي أهمية العملين في انطلاقتهما من التركيز على الجوانب الاجتماعية في تجارب كالمشي والنوم، بوصفها تفاعلًا اجتماعيًّا يجب التركيز عليه. سنركز في هذا المقال على تقديم تفاعلٍ مع المشي فلسفة بوصفه قراءة فلسفية.
عن كتاب المشي فلسفة
كما يظهر من عنوانه، يقدم الكتاب المشي في صورة فلسفية يبدؤها غرو بالتأكيد على أن المشي ليس رياضة تقوم على الأرقام والنتائج والتسابق، وأن تقديمه بصفة الرياضة ترتَّب عليه محاولات جدية لخلق سوق جديدة من الإكسسوارات المختلفة مثل: الأحذية والجوارب والبنطلونات وغيرها، ويرى أن هذا التعريف يجرد المشي من قيمته الأساسية، ويؤكد على أن الاستمتاع بالمشاهد الطبيعية وكثافة السماء هي الإنجاز الوحيد الذي يؤخذ بعين الاعتبار.
ثم ينطلق في رحلة الكتاب والتعرف إلى فلسفة المشي لدى العديد من المفكرين والفلاسفة والأدباء مثل: فريدريك نيتشه وآرثر رامبو وجان جاك روسو ومهاتما غاندي وإيمانويل كانط. والميزة في فلسفة كل مفكر أنها تمنح المشي بُعدًا ربما لم تفكر أنه موجود من قبل، ما يزيد من متعة القراءة واستكشاف الكتاب.
المشي والتحرر
يعيش عالم اليوم على واقع التقنية، التي جعلت من المساحات الأرضية مجرد أميال على خرائط أو برامج، تختزل الشوارع والطرقات في صور مجردة، وعليك أن تتبع تلك البرامج حتى تعرف بداية مشوارٍ تقوم به أو نهايته.
وفي حين أن ما تقدمه التقنية هو الدقة والتقسيم، فإن ما تقدمه لنا تجربة المشي هي أنها تساعدنا على الإدراك، والفرق كبير بين المعنيين، ففي الإدراك هناك ذات تتحرك وتجوب المناطق مستعيدة حريتها، لكن التقنية تتطلب تحويل العالم والأماكن إلى مجرد تقسيمات الغرض منها إيصالك بسرعة كبيرة، دون تكبُّد أية معاناة.
أن نقوم بتجربة المشي يعني التحرر من كل التساؤلات والضغوطات التي نعيشها في عالم يضعنا أمام هشاشة مستمرة بلا انقطاع. نعيش في عوالم مدينية تحكمها وسائل المواصلات وتطور الأمر إلى أكثر من ذلك، فعن طريق ضغطة زر قد تجلب لك عربة تحت المنزل، هنا أصبح المشوار بدلًا من التمشية ضرورة قصوى، من أجل الانتهاء منه حتى نذهب إلى آخر، ما يجعلنا فاقدين متعة الاستكشاف.
لا توجد عبودية بالمفهوم التقليدي للكلمة في الواقع المديني، لكن هناك تجربة تقويض للذوات الإنسانية، لهذا يدعونا غرو إلى فهم تجربة المشي بوصفها تجربة تلاقٍ بين الذاتي والإنساني، وتمردًا على كل وسائل القمع التي تمارس على ذواتنا بفعل التكنولوجيا، أو آليات المراقبة التي تجعلنا مجرد ذرات صغيرة محكوم عليها بالفشل.
إن الهوية المتخيلة التي يقيمها أفراد الأمة تقوم على عدة مشتركات مثل اللغة والجنس والدين، لكن ما تقوم به تجربة المشي هو الانعتاق من هذه الهوية، من أجل استكشاف الذات وسط الجماعات المختلفة التي لا اسم لها، ما يجعلنا مستكشفين لأبعاد أخرى من الحياة، هنا يحدث التحرر؛ بينما قيادة السيارات تجعلنا منعزلين عن العالم ومقيدين بطرق معينة.
إن المشي يضعنا أمام تجربة نتجرد فيها من كل شيء من أجل التأمل، مثل الناسك الذي يتعب ويتخلص من كل شيء حتى يعود إلى شخصيته الخالية من الذنوب.
من التيه
يشير غرو في الكتاب الى جوانب متعددة من حياة نيتشه؛ ليست الجوانب التقليدية كما يركز أغلب الناس عند الحديث عنه، وإنما يقيم مع فلسفته سجالًا في إطار تجربة المشي التي داوم عليها طوال حياته. فالدرس المستفاد من تجربة نيتشه ليست أطروحاته التي نرددها على سبيل الفكاهة مثل: «نحن من قتلنا الإله»، أو «اذهب إلى مقابلة المرأة ومعك سوط»، مثل تلك الجمل تختزل منجز نيتشه، لأن تجربته الأساسية قامت على التحرر من سياق العمل بالكثير من المشي حتى يكتشف ما يدور في ذهنه.
تمثل أطروحات نيتشه تضادًّا كاملًا مع السياق الأوروبي، الذي أعلن ضرورة تأطير المعرفة عبر المكتبات والكتب والانعزال عن العالم حتى تغدو صورة المثقف مدرسية، لكن نيتشه أعلن ضرورة التصالح مع الذات عبر المشي حتى تنتج فكرًا.
يعطينا نيتشه درسًا في أهمية أن يكون جسدك انعكاسًا لما تكتبه، فالأجساد المقوسة التي تجلس بالساعات أمام المكاتب تكون كتاباتها عسيرة الفهم وثقيلة، تعتمد على مصادر وكتب أخرى للكتابة، فتخرج مليئة بالاقتباسات والمراجع والهوامش، فتكون مجرد نسخة مشابهة لكتب موجودة سابقًا.
بينما المؤلف الذي يفعل ذلك أثناء المشي، فكره لا يخضع للمراجع أو الكتب الأخرى، فلا يكون خاضعًا تحت وطأة أفكار الآخرين، بل يكون بإمكانه التفكير والحكم بنفسه وتوليد عمل أدبي مبدع يعبر عن ذاته فقط.
أخيرًا، تأسست فكرة العود الأبدي لدى نيتشه على فكرة التحرر، عبر استكشاف الذات والمشي من أجل التأمل والبحث عن قيمة عند الفرد لا مجرد الاندماج مع الجموع، من خلال الاتحاد مع الطبيعة، هنا تصبح الذات والطبيعة موضوعين متصلين.
أن تكون رفيقًا
تضعك تجربة المشي أمام رفاق عديدين لك، لتؤكد أنك لست منفردًا في إيقاع العالم المتسارع، الذي يقضي على طبيعتك الإنسانية، ومن هنا لا بد من ضرورة أن تتكاتف جهودنا من أجل أن نعيش حياة بلا عزلة. تسعى تجربة المشي إلى إقامة حشود مختلفة الهويات والأفكار، إلا أنها بذلك توحد جمهورًا واسعًا من الناس يسعون إلى مطلب واحد غير مضمون التحقق.
لكن المهم أن نعيد تشكيل الطرقات والأماكن حتى نحظى بصداقة تعيد للذوات هويتها المفقودة، في عالم يدفعك إلى الوحدة والعزلة كل يوم عن طريق الإتيان بكل ما تريده بضغطة زر. إن اللغة التي تقدمها تجربة المشي ليست في كلمات، وإنما في طبيعتها الذاتية وبحثها عن لغة بصرية تجعل الأفراد ينتجون تصورات مشتركة بهم، من أجل استكمال الرحلة التي يقومون بها، ما يجعل الفضاء الذي يتحرك فيه الأفراد خاضعًا لهم.
أحلام يقظة
يركز الكتاب على فكرة تتبُّعِ فيلسوفٍ آخر مثل جان جاك روسو، وتجربته التي ترى أن الحضارة الغربية تعيش حالة من الانحطاط، وأنه لابد لنا من إعادة تفسير الحضارة عبر الخروج عنها، وإعادة الاعتبار للإنسان الحقيقي المنبثق من الطبيعة البدائية. لا تعتمد تجربة المشي عند روسو على مجرد التطهر أو الانعزال عن الآخرين، لكن عبر اختراق الطبيعة والكثير من المشي، حتى يجد الإنسان ذاته، وليس كما هذبته الحضارة.
يرى روسو أن المنجز الحداثي جعل الشخصية الإنسانية تميل إلى الحقد والشراسة والقتل، لكن عبر اختراق الحدود والجيوش نصبح أمام صيغة الإنسان الأولى البدائية، التي تحاول أن تشترك مع الجموع، فلا أحد أفضل من أحد لمجرد أن الأول يمتلك الثروة مثلًا. إن المشي هو تجربة يقظة عند روسو واستعادة للمجد الإنساني في طبيعته وليست كما لوثته الحداثة، بينما اليوم تبدو خطيئتنا الأساسية أننا حولناها إلى سيدة القرار ونحن التابعون.
الحج
لا يرتكز كتاب المشي فلسفة على الجانب الفلسفي الغربي فقط، لكنه يرى تجربة المشي في الديانات الروحانية الشرقية، وهي ميزة جوهرية في هذا الكتاب، حيث نجد أنفسنا أمام تجربة الحج متجاوزًا الأبعاد الدينية مؤكدًا على أنها تجربة إنسانية فريدة من نوعها، حيث يقوم الحاج فيها بالتجرد من كل شيء من أجل مشاركة آلامه مع غيره من الأفراد.
إن ممارسة تجربة المشي بصفة يومية تجعل الفضاء الاجتماعي يعمل على إنتاج أمكنة للحرية، تستوعب رؤي متنوعة وشديدة التعقيد. والمدينة لا تنشأ من مجرد فضاءات مقسمة أو خرائط، وإنما عبر استكشافها، فنحن نقوم بخلق الأمكنة ونعطيها حضورها، لهذا تحاول السلطة في مختلف العصور السيطرة على المكان، والتنبيه باستمرار على رفض فكرة الحشد، لأنها تعني تعطيل إدارتها وسيطرتها على البشر.
قد يعجبك أيضاً
يتناول مقال محمد أسامة مراجعة رواية "لا شيء أسود بالكامل" المزيد
تقدم شيماء مصطفى في مراجعتها رواية «عمة آل مشرق» للكاتبة المزيد