مراجعات

النازية «كعقيدة حقد»

يناقش المقال كتاب "النازية كعقيدة حقد" لمينو تير براك، حيث يوضح كيف بنيت النازية على مفاهيم الحقد والضغينة، ويستند إلى أفكار نيتشه لفهم تأثير هذه العقيدة على المجتمع الألماني في زمن هتلر.
النازية «عقيدةُ حقدٍ»

يمثِّل صعود اليمين المتطرِّف إلى سدة الحكم في دول عدَّة تحديًا للمثقفين والمدافعين عن الديمقراطية والتشاركيَّة؛ فهذا الصعود يشكِّل خطرًا على مبادئ الحرية، كما يقودنا إلى حالة من الرجعية الفكريَّة، ويذكرنا بحالة صعود الأفكار النازية والفاشية مطلع القرن العشرين.

وفي هذا السياق، لا بدَّ لنا من الوقوف على كتاب مهم في مجاله، عنوانه: «النازية كعقيدة حقد»، وهو من تأليف الهولندي: “مينو تير براك”، وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية المترجم “مصطفى عبد الظاهر”، ونشرته دار “صفصافة” للنشر والتوزيع عام 2021.

يهاجم “براك” في كتابه هذا -الذي يقع في خمسين صفحة- العقيدة النازية، ويعتبرها عقيدة حقد وضغينة، كما يستند في تأسيسه لمفهومي “الحقد” و”الضغينة” على أفكار الفيلسوف الألماني: “فريدريك نيتشه”. 

وفيما يلي، سنستعرض أبرز الأفكار الواردة في هذا الكتاب، والتي لا بدَّ من الوعي بها وإدراكها وربطها بالسياق المعاصر، من أجل فهم أكبر للماضي وتعالقاته مع سياقاتنا الآنية.

الحقد والضغينة؛ أصل المفهوم:

يظن نيتشه وكاتب الكُتيب “مينو تراك” أنَّ الضغينة أو الحقد أساس الشرور؛ فالضغينة تجعل الإنسان يكره أي شيء نبيل أو صحي أو مختلف عنه، كما تبرر أفعاله الشريرة وتوفر له القناعة الداخلية بأفعاله دون تأنيب ضمير أو محاسبة.

على سبيل المثال، الاختلافات والتنوعات داخل المجتمع هي شيء مطلوب وصحي ومحبب، ولكنَّ النازية -بوصفها حركة تدعي “الاشتراكية الديمقراطية”- ترى أنَّ الجميع دون استثناء لا بدَّ من أن يكونوا متشابهين تمامًا، فنجد  -على المستوى الظاهري- أنَّ المستشار الألماني “رفيق” للعامل الصغير في المصنع، ولكن على المستوى الحقوقي العميق لا نجد هذا العدل. لذا، لا تتعجل بتصديق تلك البروباجندا أو الأكذوبة التي تروِّج للنازية وتظهرها بمظهر جيد، فهذا كلُّه محض شعارات وافتراءات. 

امتداد خط الضغينة؛ إلى أين قد يصل؟

عزيزي القارئ، قد يختلط الأمر عليك، فتظنُّ أنَّنا ننتقد الديمقراطية الاشتراكية، وفي هذا السياق لا بدَّ من أن نوضح لك الأمر، فنحن لا ننتقد الديمقراطية الاشتراكية في فكرتها العمومية، بل ننتقد تطبيقها الذي اعتمدته النازية، فالمشكلة ليست في الديمقراطية الاشتراكية، فهي أساس الاستقرار والتقدم السياسي المؤدي إلى تحولات جوهرية على الأصعدة المختلفة، بل المشكلة في تطبيقها النازي الذي ألغى السياقات التنوعية العمومية ضمن المجتمع، فقد استمرت الأفكار النازية بالتمدد حتى وصلت إلى مرحلة رفض كلِّ ما هو دون العِرق الألماني أو العِرق الآري، أي قد اتَّخذت النازية من الديمقراطية والاشتراكية وفكرة المساواة عوامل جذب للجمهور الذي اتبعها، ولكنها أنتجت جنينًا مشوهًا، أفرز المآسي التي عانى منها العالم بعد ذلك.

ومن هنا، أنتجت الضغينة فكرًا نازيًا يحقد على الآخر، ويكره التنوع والحرية الفردية للإنسان، ويحارب المختلف عنه، ويشعر بالحقد نحوه، كما يرفض فكرة الانتقاد والاعتراض، ويؤذي المختلفين في الديانة أو العِرق. فالضغينة الكامنة داخل نفوس النازيين خلقت شعبًا منصاعًا للدولة، يصدِّق ما تقوله الحكومة، وما تغذِّيه فيه من أكاذيب؛ فالحقد الشعبي يجعل الدولة إلهًا منزهًا.

أما الأداة الإعلامية لدولة الرايخ، فقد كانت تغذي الحقد والضغينة في الشعب، وذلك باستخدام الأساليب العلمية أو النظريات التي قالت بتخلُّف اليهود وتفوُّق العِرق الآري، فحتى العلم طُوِّع لخدمة الضغينة وتغذية الحقد، ما زاد من هالة وجاذبية الفكرة النازية والدولة الفاشية التي أنتجتها. 

راحة الضمير، كيف تغذي الضغينة الضمير؟

وفَّرت فكرة الضغينة أو الحقد مساحة آمنة لإخراج الشر البشري الخالص والتباهي به، دون أن يكون لذلك الحاقد أي شكٍّ في موقفه، فالحقد داخل النازيين كان يوفر لهم الرضا الشعبي والنفسي عما فعلته الحكومة النازية في المنبوذين عامة، حتى إن الدولة النازية حاولت اختلاق حقائق علمية تبرر بها سياساتها، فيكتمل القبول النفسي للشعب النازي للفكرة، ويبتعد عن التفكير في أي دحض لها. وقد أدى ذلك إلى مساهمة الشعب مع الدولة في عمليات التطهير العرقي لليهود، وازدياد أعداد المجندين الذين يخدمون في الجيش النازي، بل إنَّ المواطنين دفع بعضهم بعضًا لخدمة الدولة، والذهاب للجيش، وقتال كلِّ من زُرعت بداخلهم ضغينة ضده.  

وبالتالي، فأي تفكير في دحض الفكرة النازية أو نقدها لا بدَّ من أن يفهم بوضوح ما سببته تلك الفكرة والضغينة المغذية لها، فهي اختزلت العالم في مفاهيم مبسطة؛ خير: وهو النازيون، وشر: وهو أي شخص آخر، خاصة لو كان يهوديًا أو بلشفيًا روسيًا. فلا مكان لأي أفكار أو رؤى نسبية داخل المجتمع الحاقد، فالحقائق النسبية تعني جدالًا وتنوعًا مفاهيميًا، يضر ببنية الدولة الأحادية الموجهة لخدمة الفكرة الواحدة، ألا وهي “النازية”.

ضد النازية واليمين المتطرف؛ كيف يمكن نقد المفهوم؟

يحتاج المثقفون والمناهضون للنازية إلى فهم الطبيعة التي تكوَّنت منها الفكرة؛ ألا وهي الضغينة والحقد، وكيف شكَّلت تلك الفكرة وعيًا جمعيًا للشعب، جعله متمسكًا بالفكرة وداعمًا لها. وبالتالي، فأي مواجهة تكون مع اليمين المتطرِّف اليوم أو النازية في السابق لا بدَّ  من أن تضع هدفها الأول، ألا وهو التخفيف من الشعور الجمعي بالحقد والضغينة ضد الآخر، سواء بالكلمة أم صندوق الاقتراع أم  ما حدث سابقًا بتمزيق القمصان العسكرية النازية وتبديد تلك الحكومة المأساوية. 

من الخطأ النظر للنازية على أنَّها اندثرت، فالفكرة النازية ما زالت حاضرة في العالم، وتعيد تقديم نفسها من جديد بثوب يميني متطرف، يكره المهاجرين والمختلفين، ويدعو لأفكار شعبوية قومية، تطلب من الشعب الوقوف ضد أي اختلاف أو تنوع في المجتمع، فاليمين السياسي المتطرف يغذي داخل الشعوب كرهًا وحقدًا ضد كلِّ من هو مختلف عنهم، ويدفعها للنظر إليه على أنَّه يأخذ الفرصة من أصحاب البلاد الأصليين. أي، كأنَّنا أمام إعادة إنتاج للفيلم السابق بشكله وأصله الفلسفي وأهدافه الكاذبة المعلنة أو أهدافه الشريرة الخفيَّة، ما يشكِّل تحديًا جديدًا لمثقفي العصر الحالي، من أجل دحض هذا الفكر، باستخدام مفاهيم التشارك والتنوع والديمقراطية الحقيقية والنقد للصالح العام. 

ختامًا، ذهب ذلك الكُتيِّب لمنطقة مميزة ولافتة للانتباه في فهم النفس البشرية المركَّبة صعبة الفهم، خاصة الجزء الشرير منها، فقد حاول الوصول لأصل الفكرة الفلسفية للنازية باعتبارها عقيدة حقد وضغينة، تقوم على إظهار الشر ضد الآخر المختلف، ما يقوي موقفها ويدعم فكرتها في نبذ الآخرين بل وقتلهم، كما حدث وقت حكم هتلر، الذي يحتاج المرء لتطهير فمه بعد ذكر اسمه، وكيف شعر هؤلاء براحة ضمير على ما فعلوه. فإذا وضعت الأمر تحت منظارك الفكري فستجد أنَّ الكاتب ومن قبله الفيلسوف نيتشه قد شرحا الفكرة بشكل يمكن معه تفهُّم الشر المحض الذي أخرجه هؤلاء النازيون ضد اليهود وضد غير القادرين وأصحاب الإعاقة حتى ولو كانوا من العِرق الآري.

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *