آخر خطوات رحلتنا مع أدب الرحلات هي الحديث عن إخراج الكتاب أدبيًّا وفنيًّا وما بعد النشر. وأول هذه النقاط هي اللغة، فأدب الرحلات يتطلب استخدام لغة سهلة وبسيطة، وعمومًا فإن فخ التقعر في الكتابة يقع فيه المبتدئون غالبًا؛ وذلك رغبة منهم في إظهار إمكانياتهم اللغوية، فيكثرون من تعبئة النص بالكثير من العبارات المعقدة التي لا ضرورة لها مطلقًا. فالهدف من أدب الرحلات هو الترفيه عن القارئ في الأساس، وتمرير المعلومات المتعلقة بالرحلة بسلاسة، وليس التباهي بالبراعة اللغوية. وعمومًا فإن القارئ يشعر أن النص الأدبي المصطنع ليس صادقًا، هذا لا يعني أن يكون النص سطحيًّا. باختصار في أدب الرحلات خاصةً يمكننا اعتماد منهج الكاتب الأمريكي الكبير أرنست هيمنجواي: «هدفي هو أن أضع على الورق ما أرى وما أشعر بأفضل وأبسط طريقة ممكنة».
يأخذنا هذا إلى نقطة جديدة، وهي الكتابة بحب وبإتقان. نصيحتي هي: استمتع بما تفعل، فأنت تشارك القراء حين تكتب جزءًا من ذكرياتك التي تحبها، وسينعكس هذا الحب وتلك الطاقة لتنضح بها سطور الكتاب وتستقر في قلوبهم، ومن هنا يأتي تعلقهم بما تكتب. احرص أيضًا على الجودة. صحيح أن أدب الرحلات يتضمن الكثير من الرؤية الشخصية للكاتب تجاه الأشخاص والأماكن، لكن هذا لا يعني مطلقًا ألّا يتم صقل هذه الرؤية بمعلومات جذابة ومفيدة من مصادر معتمدة من شأنها أن تجعل القارئ أكثر ثقة في المحتوى؛ ما يؤهله ليكون يومًا مصدرًا موثوقًا يمكن اللجوء إليه عند السفر لنفس الأماكن، هذا المجهود هو الذي سينتج عنه جمهور متفاعل ومخلص.
حين نتحدث عن النص الأدبي لا ينبغي أن ننسى أن أدب الرحلات الناجح هو ذلك الذي يُشعرك بأنك قد زرت المكان بالفعل، أو على الأقل يُولد لديك رغبة عارمة في الذهاب إلى نفس المكان الذي كانت تجربة الكاتب فيه إيجابية والعكس صحيح؛ لذلك من الجيد ألا تستخدم كلمات يمكن أن تنطبق على أي مكان كأن تقول: «كان ميدان الكونكورد مذهلًا»، فهناك آلاف الميادين المذهلة. لكن يمكن أن نستعيض عن ذلك بسرد الأسباب التي تجعله مذهلًا من وجهة نظر الكاتب، وأن يخلص القارئ إلى حقيقة كونه مذهلًا بنفسه من وحي صفحات تنبض بالحياة؛ فالكاتب في أدب الرحلات يقوم بدور الحواس الخمس للقارئ، وعليه أن يحرص أن يجعل القارئ يرى ويسمع ويتذوق ويشم ويشعر من خلال كلماته. لذلك فالوصف ضروري ومهم جدًّا، والتطرق إلى التفاصيل بطريقة تشويقية من أهم عوامل نجاح أدب الرحلات، بحيث ينتهي القارئ من الكتاب وهو يشعر أنه قد زار هذه الأماكن بالفعل بعد أن نقلت إليه التجربة بحذافيرها.
العنصر الأدبي الآخر المهم هو الحوار. فالحوار يُضفي روحًا على الحكاية، وعن طريقه يكتسب الأشخاص في الرحلة شخصيتهم المتفردة التي ينبغي أن تنعكس على الأوراق وتبعث فيها الحياة، وهو من أهم الطرق التي يمكن استخدامها لنقل المعلومات بطريقة سلسة. على سبيل المثال الحوار الذي دار بيننا وبين بائع الأقنعة الثرثار في فينيسيا لتمرير حكاية جزيرة بوفيليا المرعبة من خلاله كان أكثر جاذبية من قص حكاية الجزيرة بصورة جامدة وصماء، لذلك من المهم جدًّا خلال رحلتك أن تلتقط الصور، وأن تدون بعض الملاحظات عن الشخصيات التي التقيت بها، وأهم محاور الحديث التي دارت بينكما، من أجل الاستعانة بها لكتابة بعض الحوارات داخل الكتاب.
ولا ينبغي أن نتجاهل الحديث عن الإخراج الفني للكتاب حين نتحدث عن أدب الرحلات؛ فالغلاف الخارجي أو الصور الداخلية عامل جذب أساسي ومهم. ولأن الانطباع الأول يدوم؛ فإن غلاف الكتاب يقع عليه عبء كبير، ويعد من أهم أسباب نجاح الكتاب. في الكتاب الأول «رفيقا طريق» حرصت على تضمين عنصر حقيقي في الغلاف، وهو علبة الرسائل والتي تعكس جزئية (العشق) التي نجح المصمم كريم آدم في دمجها مع خلفية من الخرائط الجغرافية والتي تعكس بطبيعتها جزئية (السفر). أما عنوان الكتاب فقد جاء على ورقة صفراء متهالكة للدلالة على أن بين طيات هذا الكتاب كمية لا بأس بها من (التاريخ). أما الكتاب الثاني «رسائل البحر» فحوفظ فيه على عنصري الخرائط والعنوان، أما العنصر الرئيس الذي كان يتوسط الغلاف فهو زجاجة بداخلها رسالة ملفوفة تسبح في مياه داكنة للدلالة على مياه المحيط، كما أن الخرائط في خلفية الغلاف تتدرج باللون الأزرق، فقد أردت في هذا الغلاف أن يعكس روح الموضوعات التي تدور حولها رحلات هذا الجزء في الجزر والبحار والمحيطات. لذلك فمن المهم أن تُعير الغلاف اهتمامًا كبيرًا فهو أولى حلقات الوصل بينك وبين القارئ.
بقي أن أنوه إلى أن التفاعل مع القراء في عصرنا الحالي مهم جدًّا، ويمكن أن يخرج التفاعل مع محتوى الكتاب عن نطاق الورق. ففي الكتاب الأول أطلقت مبادرة تحت وسم #في_عشق_مصر يصور فيها القراء الكتاب مع أهم المعالم في مدينتهم، وكان الهدف منها الترويج للسياحة الداخلية، والتعرف على معالم المدن المصرية المختلفة والتي قد نجهل أغلبها. أما في الكتاب الثاني فأطلقت مبادرة #في_عشق_المعرفة، وتم توزيع زجاجة صغيرة مع الكتاب بداخلها رسالة تحتوي على اسم مكان أو أحد المزارات التي ذهبت إليها في رحلاتي، وعلى القراء البحث عن هذا المكان ومشاركتنا بمعلومات وصور عنه.
لا تفوت قراءة: الحكايات – الجزء الثالث من سلسلة أدب الرحلات
كذلك ينبغي العمل على إقامة عدد من الندوات والفعاليات المختلفة حول الكتاب للقاء القراء، والتحدث معهم عما أعجبهم وعما لم يتقبلوه، والبقاء على اتصال قدر الإمكان على وسائل التواصل الاجتماعي. ولا تنس أن العمل الجيد يفرض نفسه على الساحة؛ لذلك لا تنشغل بالمبيعات وقاعدة الجماهير، ولا تلجأ إلى وسائل سريعة مصطنعة لزيادة القراء، فجمهور القراء الذي ينمو بشكل طبيعي هو الذي يبقى. فقط كن متفاعلًا مع آراء القراء على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، نظم جدولًا للنشر بانتظام عن الكتاب وما نشر عنه من آراء وصور القراء ومراجعتهم، واكتب.
قد يعجبك أيضاً
التخطيط لرحلتك لا يقتصر على تفاصيل السفر فقط، بل يشمل المزيد