مقالات

الكاتب الناجح كاتب مخاطِر

المخاطرة في الكتابة ليست هدفًا بحد ذاتها، لكنها وسيلة لتحقيق النجاح وجذب انتباه القارئ. الكاتب الذي يكسر التوقعات ويبدي صدقه يُبدع نصوصًا تترك أثرًا عميقًا وتستمر في عقول القراء

جميعنا اليوم يمارس الكتابة بالفعل على وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أشكالها، وقد يظن بعضهم أن كتابة مقال أو كتاب هو أمر أشبه بالطريقة الاسترسالية التي نكتب بها هناك وأنها مسألة وقت لا أكثر، تجلس وراء قلم أو شاشة، تلتقط فكرة ما وتبدأ الكتابة فيها وتدون ما يطرأ على بالك، بلا مخاطرة ولا تحديات.

لكن في الحقيقة إن المخاطرة تصحبنا في كل مراحل الكتابة، ولن نبالغ إذا قلنا إن الكاتب الذي نجح في أن يكون له أسلوبه المميز في الكتابة هو الكاتب الذي كان مخاطرًا أثناء عملية الكتابة.

لكن ماذا نقصد بالمخاطرة تحديدًا؟ هل المخاطرة هي مجرد الخروج على المألوف؟

دعنا في البداية أن نؤكد على أن المخاطرة ليست هي الغاية من الكتابة وإنما هي وسيلة للنجاح والتميز فيها، لذلك فنحن لا نقصد أن يكون الكاتب مولعًا بالمخاطرة في ذاتها فيكسر كل التابوهات ويخرج عن كل الأعراف؛ لأن حالة كهذه ستدفع الكاتب ليصبح مهووسًا بالمخاطرة في ذاتها فتخرج كتاباته متكلفة.

 لكن المخاطرة التي نعنيها هنا هي كل ما يجعلك ممسكًا بزمام انتباه القارئ، لأنه ليس من شيء أكثر مللًا من أن تقرأ جملة تتوقع كل كلمة فيها! تقول المؤلفة سوزان تبير إن أثناء حضورها ورشة كتابة، قالت محررة ضيفة من مجلة ذا نيو يوركر: «أقرأ السطر الأول. إذا أعجبني، أقرأ السطر الثاني». كم شعرت بهذه العبارة! فأنا، كأغلب القراء المعاصرين، لم أعد أتحمل القراءة لكاتب متوقَع، وكأن عقلي يرفض الاستيعاب إذا لم يجذبني الكاتب من كلماته الأولى. ولهذا السبب أصبح من الضروري أن تكون مخاطرًا في كتابتك لتحقق النجاح.

المخاطرة في الإقدام على الكتابة

كثيرون منا بمجرد أن نجد موضوعًا نتحمس للكتابة فيه ولدينا بالفعل ما نقوله فيه، فإننا نحب أن نمضي بعض الوقت في مراجعة الكتابات السابقة في الموضوع نفسه الذي اخترنا الكتابة فيه، وأحيانًا ما نحتاج إلى مراجعة بعض المعلومات قبل أن نشرع في الكتابة، وربما أصبنا بالإحباط إما لأننا وجدنا مَنْ كتب في ما ننوي الكتابة فيه بشكل أفضل، وإما لأننا ندرك أننا نفتقر إلى المعلومات الكافية حول ما نود الكتابة فيه وأن علينا أن نذاكر الكثير من الكتب ونجمع أكبر قدر من المعلومات قبل أن نشرع في الكتابة.

هذه المشكلة تواجه أكثرنا اليوم في عالم الوفرة المعلوماتية والمعرفية والتي تشوش على الكُتَّاب أكثر مما تسعفهم، لذا علينا أن نصغي إلى نصيحة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز عندما يقول:

"يجب أن يستقر المرء عند النقطة الحدية لمعرفته أو لجهله، كي يكون لديه ما يقوله. إذا انتظرتُ لأعرف ما سأكتبه أو أتكلم عنه تمامًا فسوف يكون عليَّ أن أنتظر دائمًا ولن يكون ما يجب أن أقوله مهمًا! إذا اخترت الاستقرار ولم أخاطر وتحدثت بالطريقة النظامية عن شيء لا أعرفه فلن يكون هذا مهمًا أيضًا. لكنني أتحدث عن هذا الحد بين المعرفة واللا معرفة والذي يجب على المرء أن يستقر عنده كي يكون لديه ما يقوله". «الألف باء» - جيل دولوز (117،116)

أهمية المخاطرة في الكتابة

في مقال لها تروي المؤلفة سوزان تبير قصة نجاح قصتها القصيرة «الغزلان»، وهي قصة تقع أحداثها أثناء حرب فيتنام. تقول سوزان إن أثناء كتابتها للقصة انغمست في شخصياتها، وحين أفاقت وجدت أنها قد كتبت بعض الكلمات القبيحة على لسان إحدى الشخصيات. تقول سوزان إنها حينئذٍ استرخت على كرسيها تفكر: أتترك تلك الكلمات أم تسلك الطريق الآمن وتعيد صياغتها؟ لكنها في النهاية قررت عدم حذف الكلمات المسيئة، لأنها وإن لم تنل إعجاب الكاتبة فهي «كلمات الشخصيات».

أصبحت هذه الكلمات التي خاطرت سوزان بالإبقاء عليها إحدى أشهر مقولاتها. وكان لها دور كبير في شهرة قصة الغزلان التي ترشحت لجائزة بوشكارت ولسلسلة «ناشيونال بابليك راديو» للقصص القصيرة المختارة.

نستشف من حكاية سوزان وقصتها أهمية المخاطرة أثناء الكتابة. فبخروج سوزان عن أسلوبها المعتاد كسرت حاجزًا بينها وبين شخصياتها، ما أمكنها من تجسيد الشخصيات تجسيدًا واقعيًّا حاز على إعجاب الكثيرين. مَنْ يدري؟ ربما لو لم تأخذ سوزان المخاطرة لما سمعنا عن قصتها. وربما لو سمعنا عن القصة لما استطعنا استيعاب درجة الغضب الذي كان يسيطر على النفوس أثناء الحرب بسبب ضعف الحوار وعدم تعبيره عن مشاعر الشخصيات.

ومن ثم، يمكننا تلخيص أهمية المخاطرة أثناء الكتابة في هذه النقاط:

1. جذب انتباه القارئ

ينجذب القارئ حين يتفاجأ بحدث غير متوقع، سواءٌ كان تغيرًا مفاجئًا في أسلوب الكاتب، أو حدوث انعطاف في أحداث القصة، أو تغير أسلوب السرد أو السارد.

2. تعميق فهم القارئ للشخصيات

في بعض القصص، وبالأخص تلك التي تتناول أحداثًا خطيرة مثل الحروب، يجب أن يكون الكاتب جريئًا ومباغتًا في عرض الأحداث، كما كانت سوزان في المثال الذي ذكرناه. فبذلك يخلق الكاتب رابطًا بين القارئ والشخصية، إذ يجد القارئ نفسه فجأةً أصبح يشعر بما تشعر به الشخصية بل ويتفاعل مع الأحداث التي تمر بها أيضًا. فكلما حاول الكاتب خلق هذا الرابط ببطء ورتابة، نفر القارئ منه.

3. ابتكار عمل جديد فريد من نوعه

مهما حاول الكاتب فلن يستطيع إبداع عمل أصلي خالصٍ إن لم يخاطر، إلا في القليل النادر. فالغالب أنه لا إبداع ولا عمل فني ناجح بغير مخاطرة. وإن التزم الكاتب بمنطقة الأمان، فلا شك سيجد أنه إما يقلد غيره أو نفسه، وبهذا سرعان ما سيفقد انتباه قارئه.

 صفات الكاتب المخاطر

تتحدث الكاتبة ك. م. ويلاند عن الصفات التي يجب على الكاتب التحلي بها ليتمكن من المخاطرة في كتاباته، ومن ضمنها 3 صفات أساسية:

1. الصدق

للصدق في الكتابة بعدان: الصدق في التعبير عن ذاتك، والصدق في التعبير عن العالم حولك. وكلاهما يتطلب الكثير من الشجاعة والانفتاح على المخاطرة.

أهم ما يمكنك إضافته للأدب هو منظورك للحياة. لكل منا شخصية فريدة لا مثيل لها، ولهذا فإن استطعت إظهار ذاتك المميزة في كتاباتك، فلا شك أنك ستُنتج عملًا إبداعيًّا يختلف عن باقي الأعمال. لكن رغم أن احتفاظ الكاتب بشخصيته في الكتابة يبدو أمرًا سهلًا، ربما تكون هذه هي المخاطرة الأصعب. فالكثير منا يجد صعوبة في تقبل ذاته والتعبير عنها في قصة قد يقرؤها الملايين. ولذا يجب عليك العثور على ذاتك وتقبلها وتقبل معتقداتك ورغباتك، لتتمكن من تقديم عمل مزين بفرديتك. تقول سوزان إن الكاتب الناجح هو الذي نستشف من قصته: «كيف يرى الكاتب الأمور، والعالم» والذي يعرف كيف «يمكنه ترجمة تلك الآراء إلى نصوص رائعة ستبقى في عقل القارئ، أو في لا وعيه».

أما عن الصدق في التعبير عن العالم، فيذكر لنا التاريخ الكثير من الكتاب الذين خاطروا مخاطرات كبيرة، حتى إن بعضها كاد يودي بحياتهم، لينقلوا لنا واقعهم. على سبيل المثال، خاطرت الكاتبة هيريت بيتشر ستو بكتابة روايتها «كوخ العم توم» في ظل الظروف القامعة التي كان يتعرض لها أصحاب البشرة السوداء، وكانت النتيجة أن هذه الرواية الجريئة التي نقلت صميم واقع العبيد آنذاك كانت من ضمن الأسباب التي أشعلت الحرب الأهلية لإنهاء العبودية. وفي عالمنا العربي نجد الكاتب نجيب محفوظ، الذي اهتم بنقل صورة واقعية عن الحارة المصرية بكل شفافية دون الخوف من الانتقادات أو الاستنكارات، ما أدى به إلى الفوز بجائزة نوبل للأدب. هذان مثالان على كل كاتب الاقتداء بهما، فاستجمع شجاعتك ولا تخف من مواجهة العالم بالحقائق؛ فربما تكون روايتك سببًا في تغيير واقع قبيح.

2. التمرد

يقول الكاتب مايكل موركوك إنه عليك أيها المؤلف «تجاهل كل القواعد المقترحة واخلق قواعدك الخاصة التي تلائم ما تريد أن تقوله.» ونفهم من مقولته أن على الكاتب اختيار أسلوب الكتابة والسرد الذي يليق به وبالرسالة التي يود مشاركتها، وألا ينجرف وراء القواعد الرائجة التي تعيق ذاتيته. درست في الجامعة رحلة الكاتب، ونموذجًا قصصيًّا يبدأ بظهور مسعى يحث بطل القصة على خوض مغامرة، ثم يواجه البطل بعض العوائق، ثم يحقق المسعى فينتصر. وعلمت أن الكثير من الكُتَّاب يتبعون هذا النموذج في رواياتهم، لكن هذه الروايات قليلًا ما جذبتني. بل جذبني أولئك الذين يتجاهلون النماذج المعتادة ويبتدعون نماذجهم الخاصة، فيكتب شيكسبير عن «ماكبث» البطل الذي يموت دون تحقيق انتصار، ويتمرد نجيب محفوظ على كل قواعد السرد فيخلط بين أكثر من راوٍ وأكثر من زمن في كتاب واحد، وتهدم فيرجينيا وولف قواعد الكتابة فتطلق العنان للاوعي ليكتب هو أفكارها المختلطة المتدفقة.

أولئك هم الكتاب الذين اختاروا المخاطرة والتمرد على القواعد فوصلوا بفنهم المتميز إلى آفاق العالمية. وليس المقصود من الأمر هنا هو أن أي عمل يتبع القواعد سيئ؛ إنما المقصود هو ألا تخاف من عدم اتباع القواعد التي لا تلائم رسالتك. تعلم قواعد الكتابة واحرص على فهمها، لكن احذر من اتباعها إلى الحد الذي يضر بقصتك.

3. الإبداع

تقول ويلاند إن على الكاتب «ألا يكتب الكتاب ذاته مرتين.» وتوضح أن هذا قد يحدث دون دراية الكاتب، إذ يظن أنه يقدم عملًا جديدًا لكنه في الحقيقة يعيد نماذج من أعمال سابقة. لذا، يجب على الكاتب المخاطرة وألا ينفر من شعوره بعدم الثقة في تجربة جديدة يخوضها لأول مرة. فكما تقول ويلاند، الفن الجيد يبدو سيئًا في البداية، لأنه خارج عن توقعاتنا، لكن ما أن نعدل هذه التوقعات، نرى أننا قد قدمنا فنًا مبدعًا. أما الفن السيئ حقيقةً فهو ما اعتدنا عليه فأصبح مبتذلًا، لا يفاجئنا ولا يثير فضولنا. لذا، اسمح لنفسك بالشعور بعدم الارتياح لفكرة جديدة تطرحها أو لأسلوب جديد تتبعه، وخض هذه المخاطرة؛ فكلما شعرت بالألفة وأنت تكتب عملًا ما، كان هذا إشارة لافتقار هذا العمل للإبداع.

3 مخاطرات يمكنك أن تغامر بها وأنت تكتب

من المفيد أن تعرف بعض المخاطرات التي كثيرًا ما يأخذها الكُتَّاب حتى تعرف ما إذا كانت قصتك تتضمن بعض عناصر المخاطرة. لذا، انتقينا لك 3 مخاطرات شائعة:

1. قتل إحدى الشخصيات

يغامر بعض الكتاب بقتل إحدى الشخصيات الرئيسية في العمل بهدف تحفيز القراء على الاستمرار في القراءة، وكلما كانت الشخصية محبوبة زادت المخاطرة. يقول الكاتب براين توماس شميدت إن الكثير من الكتاب ينظرون إلى الشخصيات التي ابتدعوها وكأنها أبناؤهم، فيجدون قتلها أمرًا في غاية الصعوبة. لكنه ينصح بالنظر إلى العائد الذي سيجنيه عملك من قتل شخصية ما. فإذا قتلت شخصية مفضلة لدى الجماهير، تثير مشاعر الشفقة والأسى فيهم، فيرغبون في استكمال القصة لمعرفة كيف ستتعامل الشخصيات الأخرى مع موت هذه الشخصية وكيف سيؤثر موتها على مسار القصة. وأحيانًا، بقتل شخصية شريرة، تبث الأمل في نفس القارئ فتتجدد رغبته في متابعة القراءة ليرى كيف سيتحول عالمك الخيالي بعد موت شخصية مؤذية.

2. تناول الموضوعات بطرق غير مألوفة

يقول براين إن على كل كاتب إضافة لمسته الخاصة على الموضوع الذي يكتب عنه، حتى وإن كان موضوعًا شائعًا. ويذكر على ذلك مثالًا من كتاباته، فيقول إنه حين أراد أن يتناول فكرة العبودية وينتقدها في أحد كتبه، زين قصته بإطار ديني فأصبحت من الظاهر قصة عن سيدنا موسى، وأصبحت تصنف قصة دينية، إلا أن الموضوع الأساسي الذي تناقشه هو العبودية. فبذلك خاطر براين بمزج الدين بالخيال، ونجح في جذب انتباه قرائه. يذكرني ذلك برواية «أولاد حارتنا» الخالدة، التي مزج فيها نجيب محفوظ بين الدين والواقع، فكانت النتيجة أن أصبحت القصة موضع دراسة حتى الآن، ولا أحد يستطيع الجزم بمقصد نجيب محفوظ الحقيقي منها.

3. خلق شخصيات غير مألوفة

ربما تكون الموضوعات التي يمكنك تناولها في قصتك محدودة بعض الشيء، فنضطر لاستعراضها مرارًا وتكرارًا، لكن كم من السهل خلق شخصيات متفردة! فينصح براين بفعل ذلك من خلال استبدال شخصية اعتاد الناس أن تكون ذكرًا، مثل شخصية ناصح الملك، بشخصية أنثى. أتوقع أن تكون هذه مخاطرة أكبر في عالمنا العربي، حيث الفروق الواضحة بين أدوار الجنسين، لكن كلما خاطرت مخاطرة أكبر لقيت انتباهًا أكبر. وقد تكون هذه طريقة لتطوير عالمنا.

لا تفوت قراءة: منارات الأدب في العالم العربي (قريبًا)

متى تكون المخاطرة سلبية؟

يشترط أن تكون هناك حاجة للمخاطرة حتى تكون إيجابية. فمثلما يجعل افتقار المخاطرة قصتك مبتذلة، الكثير من المخاطرات بلا هدف يخدم القصة تجعل قصتك مبتذلة. لا تقتل شخصية إلا إذا كان قتلها حدثًا محوريًّا في القصة، ولا تتناول موضوعات بسيطة بطرق معقدة أكثر من اللازم فتخذل القارئ بمغزى لا يقابل توقعاته، ولا تبالغ في جعل جميع الشخصيات مختلفة فتبدو غير واقعية. إذا وجدت قصتك مليئة بالمخاطرات غير الضرورية، فحاول أن تبسطها وتزيد من سلاسة الأحداث حتى لا تفقد قارئك في زحام المخاطرات.

الملخص

دائمًا ما يُقال إن الشخص الذي يمتنع عن المغامرة يفقد متعة الحياة. تبقى أنت لا تتغير. تنبهر ولا تُبهر. تفتقر إلى التجارب التي تجعل لحياتك مذاقًا يجذب الجميع. وما أخطر ذلك على كاتب! لهذا تقول سوزان إن على جميع الكتاب امتلاك قميص مكتوب عليه «خاطر». وتقول: «في اللحظة التي سمحت فيها للمخاطرة بالدخول إلى حياتي، أصبح العالم مكانًا يسهل التعامل معه. أصبح التعامل يسيرًا مع أشخاص بدا التعامل معهم مستحيلًا. بدأت الفرص تنهال علي.»

المصادر:

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *