مراجعات

لماذا لا يصاب حمار الوحش بقرحة المعدة؟

يتناول كتاب "لماذا لا يُصاب حمار الوحش بقرحة المعدة؟" للكاتب روبرت سابولسكي موضوع الكرب وتأثيره على صحة الإنسان، مقارنةً بحمار الوحش الذي لا يعاني من هذه المشكلة. يوضح الكتاب كيف يمكن للكرب المستمر أن يضر بالصحة، ويقدم نصائح للتعامل معه بناءً على دراسات علمية وتجارب واقعية.
لماذا لا يصاب حمار الوحش بقرحة المعدة؟

في حياتنا الحديثة التي صارت مسببات الضغط والتوتر فيها طبقات بعضها فوق بعض، تكتسب الأعمال التي تزيد من قدرة الإنسان على فهم الكرب والتعامل الإيجابي معه أهميةً خاصة. «لماذا لا يُصاب حمار الوحش بقرحة المعدة؟» لروبرت سابولسكي، من الكتب الرائدة التي تناولت هذا الموضوع في بداية الألفية، قبل أن يؤدي الاتصال الدائم بشبكات الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي إلى تفاقم مشكلة الكرب أضعافًا مضاعفة.

العلاقة بين الإنسان وحمار الوحش

إن عبقرية المقارنة بين الإنسان وحمار الوحش التي اختارها سابولسكي عنوانًا لكتابه، ويرجع إليها كل بضع صفحات، أنها توضح في ذهن القارئ الحجة الرئيسية التي يطرحها الكتاب: إن وقوع البلاء هو ما يصيب حمار الوحش بالكرب، أما ما يصيب الإنسان بالكرب فهو انتظار البلاء.

بعبارة أخرى، يمكن أن يشعر الإنسان بالقلق من مجرد أفكار راودت مخيلته، وهذه الأفكار تنشط الاستجابة الفسيولوجية نفسها التي تتنشط لدى حمار الوحش عندما تهاجمه الحيوانات المفترسة. لكن هذه الاستجابة قد تنشط عند الإنسان شهورًا، مسببة كوارث متباينة لصحة الإنسان الجسدية والنفسية (ليست قرحة المعدة أخطرها)، ما لم يتمكن من إيقافها في الوقت المناسب.

روبرت سابولسكي ودراسة الكرب

يتناول الكتاب موضوع الكَرب، وهو المصطلح المستخدم لوصف التوتر (Stress) في ترجمة الكتاب الصادرة عن دار العبيكان للمترجم شادن اليافي، وهو موضوع معقد للغاية، وتتداخل فيه الكثير من المجالات العلمية التي تتطلب قدرًا من التخصص لتجنب إساءة فهم ظواهرها وتحليلاتها.

 لكن سابولسكي يتولى هذه المهمة باقتدار. وهذا ليس بالأمر الغريب إن نظرنا لحياة سابولسكي ومسيرته العلمية غير العادية بأي حال. فمن جامعة هارفارد حصل على درجة البكالوريوس في الأنثروبولوجيا الحيوية في أواخر السبعينيات، ثم سافر إلى كينيا لدراسة السلوكيات الاجتماعية لقردة البابون. لم تقتصر رحلته على دراسة الحيوانات من كوخٍ متهالك، بل دفعه الحماس إلى العاصمة الأوغندية كمبالا في خضم الحرب مع تنزانيا، وشهد اقتحام العاصمة الأوغندية على يد الجيش التنزاني.

أضِف إلى ذلك الخليط المميز من الخبرات؛ دراسة متعمقة لعلم الغدد الصماء العصبية مكَّنته من شرح تفاصيل بالغة التعقيد عن فسيولوجيا الكرب والعمليات الدقيقة داخل الجسم، وحسًّا نقديًّا فائقًا أتاح له التعليق على عدد من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية بتبصر نادر، وحسَّ دعابة لاذعًا ساعد في تخفيف وطأة التعمق في موضوع ثقيل على النفس، فسابولسكي كان الشخص المناسب لهذه المهمة بالغة الصعوبة؛ مهمة شرْح الكرب للعوام.

الكتاب موجه لغير المتخصصين، ولسابولسكي سمعة طيبة في الكتابة العلمية لغير المتخصصين عبر العديد من المقالات والكتب الأخرى، غير أن روح التخصص تغلب عليه في الكثير من أجزاء الكتاب، خاصة التي يشرح فيها العمليات الفسيولوجية والباثولوجية داخل الجسم. ورغم أسلوب سابولسكي المبسط نوعًا ما، الذي تتخلله الدعابات الذكية والتشبيهات المرحة، يمكن القول إن مضمون الكتاب كان يمكن أن يصل إلى القارئ دون الحاجة إلى التعمق الشديد في تفاصيل هذه العمليات من مستقبلات خلوية وإشارات عصبية، قد تضع عبئًا على القراء الذين ليست لديهم خلفية بالعلوم الحيوية.

رحلة داخل فصول الكتاب

تتبع فصول الجزء الأول من الكتاب منهجًا شبه صارم: يشرح سابولسكي وظائف الجسم الطبيعية، ثم يشرح تغيراتها بفعل الاستجابة للكرب، وكيف يضر استمرار هذه الاستجابة مدة طويلة بوظائف الجسم. تتوالى الأخبار السيئة، خبرٌ تلو الآخر، ويلخصها سابولسكي في بداية الفصل الأخير:

«إذا كنت لم تكتئب من كل هذه الأخبار السيئة التي وردت في الفصول السابقة، فربما تصفحت الكتاب تصفحًا. يستطيع الكرب أن يخرب الأيض، ويرفع ضغط الدم، ويفجِّر الكريات البيض، وينفخ البطن، ويهدم الحياة الجنسية، وإذا لم يكن هذا كافيًا، فمن المحتمل أن يؤذي الدماغ».

لكن المميز حقًّا في كتاب سابولسكي أنه ليس مجرد شرحٍ أصم للجوانب العلمية للكرب، ففي هذه الحالة كان يمكن الاستعاضة عنه ببعض المراجع والأوراق البحثية الرائدة في المجال، لكن الكتاب شرحٌ يفيض عليه -مستمدًا من خبراته الواسعة التي ذكرناها أعلاه- بالعديد من التأملات الفلسفية والاجتماعية التي تعطي الكتاب قيمته الحقيقية. ويتضح في الكتاب وعي سابولسكي بهذه المسائل، سواء في حديثه عن علاقة الفقر بالكرب، أم المظالم العنصرية والسياسية التي تتعرض لها الأقليات والعرقيات المضطهدة، أم تأملاته الفلسفية في الموت والهَرَم. وهذه العوامل المسببة للكرب لا سبيل لفهمها من منظور العلوم الحيوية وحدها.

يأخذنا سابولسكي من شوارع نيويورك الصاخبة الباعثة على التوتر وما يفعله بجسد الإنسان، إلى مجتمع قردة البابون في كينيا، إلى القبائل الأوغندية ونظرة شيوخها إلى الموت والهرم، إلى الشخص المستهتر المسؤول عن ترسيم الحدود بين الهند وباكستان بعد انسحاب بريطانيا في عام 1947. وفي كل محطة من هذه المحطات يسلط الضوء على جانبٍ جديد، ويضع قطعة إضافية من اللغز، أو ربما يطرح مزيدًا من التساؤلات عوضًا عن تقديم أي إجابات. فهو يحرص، شأنه شأن أي عالم جاد، على أن يقدم للقارئ بنفسه ما يناقض أفكاره أو يهدم بعضًا من أجزاء رؤيته.

إن هذا الفهم (أو العرض) المتكامل للمسألة الذي يمهد له سابولسكي عبر خمسة عشر فصلًا هو الأساس الذي يبني عليه الفصل السادس عشر، فبعد أن يوضح للقارئ حجم المشكلات التي قد تترتب على أسلوب الحياة المسبب للكرب بصورة دائمة، يتناول سابولسكي كيف يمكن لكائنٍ هلوع جزوع مثل الإنسان أن يعيش حياةً أقل كربًا. وهنا يستعين سابولسكي بالعديد من الأمثلة على هؤلاء الأشخاص الذين نجدهم حولنا في كل يوم، ممن يعيشون حياتهم باسترخاء رغم كل مسببات الانزعاج والقلق المحيطة بهم، ويحاول فهم كيف نجحوا في هذا.

نصائح سابولسكي للتعامل مع الكرب

يقدم سابولسكي في نهاية كتابه نصائح ثمينة، ليس فقط لتعامل الإنسان مع الكرب بل للطريقة التي يمكن أن يساعد بها من يهتم لأمرهم في التعامل مع ملمات الحياة. يبين سابولسكي أهمية تعزيز الإحساس بالسيطرة لدى الأفراد وتثقيفهم، ويثمن دور شبكات الدعم الاجتماعي، فإن كان الكرب طويل الأمد ينشط في ذهن الإنسان ومن أفكاره، يمكن لتعديل نظرته للأمور أن يحدث فارقًا كبيرًا في وطأة الكرب وفي الأدوات المتاحة للتعامل معه.

معارف سابولسكي المتنوعة متعددة المجالات، إلى جانب منهجه العلمي الصارم، جعلته على دراية بمحدودية النصائح التي يقدمها. يحرص سابولسكي بعد كل نصيحة على التنبيه إلى مغبة الإفراط فيها أو المبالغة في توقع نتائجها، فزيادة الإحساس بالسيطرة لدى الأفراد قد ينقلب إلى توجيههم اللوم لأنفسهم على أشياء لم يكن لهم يدٌ فيها، وإغراقهم بالمعلومات قد يشوش تفكيرهم ويورثهم إحساسًا بالضبابية والحيرة (ونحن نعيش هذا الإغراق المعلوماتي الآن بكل تأكيد).

وهذا الإدراك لمحدودية نصائحه واختلاف أثرها من فردٍ إلى آخر، وكذلك الفروقات الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية، هو ما جعل نصائحه قابلة للتطبيق العملي، وأبرزَ إمكانية تحقيقها، وأبعدَها عن أن تقع في فخ الكلام الفارغ. 

يعرف سابولسكي جيدًا أن نصائحه تصلح، كما يقول ساخرًا، «لمجموعة من خريجي هارفرد»، أي لأبناء الطبقة المتوسطة الذين يتمتعون بقدرٍ من الرفاه في حياتهم يسمح بإحداث فارقٍ كبير في تعاملهم مع الكرب بمجرد تغيير عقلياتهم.

«إن مجال تدبير الكرب في معظمه يدور حول التكنولوجيات التي تساعد على التعامل مع التحديات التي هي أقل فداحة من التحديات الكارثية، وهي مجدية فى هذا المجال، إلا أنها لا تفيد فى خلق أسس موضوعية تقدم من خلالها هذه التكنولوجيات حلًّا مريحًا للجحيم الذي يعيش فيه المتسول المتشرد أو اللاجئ البوسني أو من يعاني من اضطهاد أفكار مسبقة تلصق به أو المريض بالسرطان المقضي عليه».

ختامًا، لا يخفى على أحد أن الكرب هو أحد أكبر أمراض العصر، ولا يمكننا مواجهته والتعامل معه سوى بالدراسة المتأنية العميقة لكل جنباته، فأتمنى لك عزيزي القارئ قراءة متعمقة للكتاب لا تخلو من الألم الذي ينبع منه العلاج.

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *