في السرديات الصحراوية ما تحجبه الأبجدية، وما يعجز المستشرقون عن توثيقه، تعود الرياح وتسرده، تنقُل حبوب لِقاحٍ من هنا لتغرسها هناك، نطفةً من هناك في رحمٍ من هنا؛ لتضع الجميع مستشرقين وأصحاب أرض في حيرة بين النبش في طلاسمها والنبش في جذورهم؛ ليبقى الجميع في دروبها غرباء غرابة كل شيء جديد لم يألفوه.
«الصحراء لها مزاجها المباغت، لا تعرف متى تُفسح لك دربًا، أو تفغر فاهًا، كل هذا يرجع إلى مزاجية غموضها وصمتها.»
تدور رواية «عمة آل مشرق» والصادرة عن دار الساقي للنشر والتوزيع في متن سردي من 400 صفحة للكاتبة السعودية أميمة الخميس، حول فتاة آل مشرق (الجازي) التي خُير أبوها بين أمرين كلاهما صعب؛ إما أن يتركها أبوها للوباء والحمى ليفتك بها لا سيما بعد رحيل الأم والأشقاء بالوباء، وإما أن تذهب مع الممرض (ماثيو إيدن) إلى إرسالية المنامة تاركةً الرياض شريطة أن يتزوَّجها ويُشهر إسلامه مهرًا لها.
اعتمد البناء السردي على مهاد زمني يمتد لمئة عام من 1918م وحتى 2018م، متخذًا من قلب الجزيرة العربية بؤرةً مركزية للأحداث لعائلة آل مشرق بتأطير متواشج استطاعت من خلاله الخميس أن تنقُل للقارئ طبيعة المكان وتأثير جغرافيته على سلوك أبنائه وعاداتهم، مستلهمةً من الواقع القديم بتراثه حبكتها بطريقة تتلامس في عذوبتها مع كتابات جورجي زيدان.
برزخ ثقافي وجسر ممتد
اتخذ رئيس ماثيو إيدن د. هاريسون إرسالية المنامة من الطب وسيلةً للتبشير، متناسيًا أن الجزيرة العربية مهبط الأديان؛ ولهذا فإن إخفاقه في ترويض العرب لِمَا خطَّط هو وفريقه باء بالفشل، فانغرس هو ومن معه في الصحراء العربية وتحوَّل ماثيو إيدن من مجرد ممرض معاون إلى رحَّالة وعاشق ومستشرق ورَّطه فضوله في عشق عصي.
«خلف كل مُبشِّر وداعية روح ساذجة تؤمن بامتلاكها التام للحقيقة.»
استند العمل في حبكته لإبراز صراع الجذور والهُوية على الأدب المقارن؛ إذ وظَّفت الكتابة الأساطير العربية للأولين، وأقاصيص الآلهة والمخزون اللغوي البدوي من حكم وأمثال وأشعار، وعلى الضفة الأخرى أدب غوته وشيكسبير وإنجيل لوقا، وأفلام هيتشوك، والأبجديات الطورسينائية، والفينيقية، والآرامية، والمسندية، والسبئية، فضلًا عن التطرق للأصول العربية من عدنانيين وقحطانيين، وآداب الطعام، والملابس العربية وما يميزها عن الشادور الأفغاني.
ولم تقم المقارنة من قِبَل الكاتبة بهدف ترسيخ البرزخ الثقافي بين الشعوب قدر ما كانت محاولةً لإيجاد جسر يسمح بالتلاقي دون طمس الهُوية.
استغلَّت الكاتبة جمعَها بين الثقافة الغربية والعربية فمزجت بين أدب الرحالة والأدب المقارن، وقد بدا العمل رحلةً أنثروبولجية تناولت الإنسان وسلوكه ونتاجه وعلم الحضارات.
رحم تدفع وأرض تبلع
في الأدب الخليجي عامةً وفي الأدب السعودي بصفة خاصة ثيمة رئيسة تتمركز حولها أغلب الأعمال؛ إذ يُعتبَر المكان بطلًا بذاته، فلا تخرج الحكايات من تجربة ذاتية لشخوص العمل قدر ما تأتي لتنبش عن تفاصيل واقتفاء أثر ما بقي وما اندثر، تجد الأحساء وعرعر والرياض ومكة، تجدها في حكايات الجدات، ونظم الشعراء، وسردية الأدباء، وفي «عمة آل مشرق» لم تكن الجازي/العمة هي البطلة، بل لعبت دور الدليل الذي يأخذ بيد الغريب في صحاريه.
وجماليات المكان فقد بُنيت على محورين؛ علاقة الراوي العليم بالأماكن المفتوحة، وعلاقة الراوي الضمني بالأماكن المغلقة، فكانت العلاقة مع الأماكن المفتوحة علاقةَ توحد وانتماء للراوي العليم، وعلاقة شد وجذب للراوي الضمني، أما الأماكن المغلقة فكانت للراوي الضمني علاقةَ نفور وتلاشٍ مع المجهول، وللراوي العليم ميناءً يصحبه إلى مدينة.
لم يقتصر الحضور المكاني على المدن والقرى سواء في البحرين أو السعودية أو في أمريكا، بل جاء حضور الموانئ كميناء العقير، وميناء بو شهر، وميناء المنامة، وميناء الجهرا، بؤرًا لأحداث جوهرية في العمل.
اقرأ أيضًا: كيف تؤسس لمكتبة شخصية في منزلك؟
بين سيميولوجية رولان بارت ولسانية دو سوسير
تعاملت الخميس مع نصها المعنون بـ «عمة آل مشرق» بذكاء وحرفية متناولةً منطقةً غير مألوفة للقارئ العربي؛ حيث التطرُّق لحياة المستشرقين في موطنهم الأصلي أو في محل دراستهم ورحلاتهم الاستشراقية، وقد نقلت لنا صورتهما بنموذجين متناقضين، معتمدةً على السميائية في أصوات الحيوانات، أو أصوات عناصر البيئة العربية في صحرائها من نخل وعشب وكثبان وآبار، كذلك السماء ونجومها، وحتى في محاولة دحض أباطيل بعضهم؛ فبحيلة ذكية جعلتهم في لحظات التيه مستخدمين لجهاز الأسطرلاب لعالمة الفلك العربية مريم الأسطرلابي، في إشارة إلى العصر الذهبي للحضارة العربية، مرةً أخرى حين جعلت جدة بيت آل مشرق تنتصر بحكاياتها على طبيب إرسالية المنامة هاريسون، فثمة تواشج محكم بين الدال والمدلول، واللغة والكلام، والتقرير والإيحاء.
«الهدوء المسرف للصحراء هو الشكل الماكر للضجيج. مع الهدوء تبدأ كل المخلوقات في الحديث؛ النجوم، الرمال، الحجارة.»
بِناءً على رغبة آل مشرق
بفضول كاتب سبقه إصرار عائلة على سرد سيرة ابنتهم التي تحوَّلت قصتها إلى فيلم أمريكي، وصارت فصلًا في كتب المستشرقين، ولأن الكتابة تحمل في ثناياها زوايا رؤًى عديدة، أرادت العائلة أن تضع لنفسها زاويةً أخرى، ولأن الكتابة السردية تختلف أيضًا عن الزوايا البصرية للسينما واللغة التقريرية الصارمة في كتب المستشرقين، أخرجت الخميس لنا عمة آل مشرق بلغة صحراوية عذبة مُدَثَّرةً بالاستعارات والتشبيهات والمجاز، وبعيدةً عن التقعر اللغوي، مستمدةً من البيئة الصحراوية نفسها، مُتَّسمةً بالإسهاب في التفاصيل، كوصفها لطلق بن عيسى دليل ماثيو وهاريسون في صحراء الجزيرة العربية وهو يتفقدهما:
«بقلق الراعي الذي يعد عنزاته.»
وعن الإحكام في بناء الشخصيات الثانوية والرئيسة في العمل فلا تدفعك النهايات للبحث عن مصير شخوصها، بل تسحبك نحو النبش داخل الصحراء للنبش في طلاسمها، بطريقة تُشبه في تكوينها بالموجات المائية.
«للغربة أنياب وأضراس ليس من مهمتك اقتلاعها، بل راوِغها وأسلِمها بعضَ المقتنيات والأوقات تتلهَّى بها عنك، لكن ابقَ يقظًا بحيث لا تنهش ما هو خلف الضلوع؛ كرامتك ورونقك.»
وعن الإحكام في بناء الشخصيات الثانوية والرئيسة في العمل فلا تدفعك النهايات للبحث عن مصير شخوصها، بل تسحبك نحو النبش داخل الصحراء للنبش في طلاسمها، بطريقة تُشبه في تكوينها بالموجات المائية.
العمل في مجمله رحلة حافلة بالتفاصيل المُدَثَّرة بالغياب، بدأت بسرد سيرة عائلة على مدار قرن كامل جدة حكَّاءة، أب وضع بين قراريْن كليهما مر، حفيدة عربية تزوَّجت من مستشرق أمريكي وتضع طفلًا يشكِّل في ملامحه وطباعه جسرًا بين الشرق والغرب، مستشرق فضولي كاد فضوله أن يلتهمه، أخ قاده الهوس بالحلم الأمريكي إلى التمرد على جذوره، وحفيد آخر اتخذ من العمة فكرة لينسج منها فيلمًا اعتبره بوابةً للعبور إلى عالمه السينمائي، وكاتبة تُخرج لنا من كل هذه موسوعةً صحراوية عذبة في تناولها، دسمة في طرحها؛ لتجعلها بذكاء سردية أولى لمكان لا لأشخاص.
قد يعجبك أيضاً
يتناول مقال محمد أسامة مراجعة رواية "لا شيء أسود بالكامل" المزيد
يستعرض المقال رواية "السندباد الأعمى" لبثينة العيسى، حيث يحول الثالوث المزيد